ثم بين سبحانه من تجب موالاتهم بعد النهي عن تولي من تجب معاداتهم ، فقال : (
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) أي ليس لكم أيها المؤمنون ناصر ينصركم إلا الله تعالى ورسوله ، وأنفسكم بعضكم أولياء بعض ، فهو نفي لنصر من يسارع من مرضى القلوب في تولي الكفار من دون الله ، وإثبات لنصر الله وولايته ، ولنصر من يقيم دينه من الرسول والمؤمنين الصادقين ، ولما كان لقب " الذين آمنوا " يشمل كل من أسلم في الظاهر وصف هؤلاء الأولياء بقوله : (
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) أي دون المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ، ولم تؤمن قلوبهم ، والذين يأتون بصورة الصلاة دون روحها ومعناها ، فإذا قاموا إليها قاموا كسالى يراءون الناس ، ولا يذكرون الله إلا قليلا . فالمؤمنون الذين يقومون بحق الولاية هم الذين يقيمون الصلاة إقامة كاملة بالآداب الظاهرة ، والمعاني الباطنة ، والذين يعطون الزكاة مستحقيها ، وهم خاضعون لأمر الله تعالى طيبة نفوسهم بأمره ، لا خوفا ولا رياء ولا سمعة ، أو يعطونها ، وهم في ضعف ووهن لا يأمنون الفقر والحاجة ، فاستعمل الركوع في المعنى النفسي لا الحسي ، وهو التطامن والخشوع لله ، أو الضعف وانحطاط القوى . قال في حقيقة الركوع من الأساس : وكانت العرب تسمي من آمن بالله ولم يعبد الأوثان راكعا ، ويقولون : " ركع إلى الله " ؛ أي اطمأن إليه خالصا ، قال النابغة : سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ إلى ربه رب البرية راكع
[ ص: 366 ] فهذا هو الشاهد على الوجه الأول ، وقال في مجاز الركوع : وركع الرجل : انحطت حاله وافتقر ، قال : لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه وفسره بعضهم بركوع الصلاة ؛ وهو الانحناء فيها ، ورووا من عدة طرق أنها نزلت في أمير المؤمنين
علي المرتضى كرم الله وجهه ؛ إذ مر به سائر وهو في المسجد ، فأعطاه خاتمه ، لكن التعبير عن المفرد " بالذين آمنوا " وعن إعطاء الخاتم " بـ " يؤتون الزكاة " مما لا يقع في كلام الفصحاء من الناس ، فهل يقع في المعجز من كلام الله على عدم ملاءمته للسياق ؟ أما إفراد " وليكم " مع إسناد الجمع إليه فهو لبيان أن الولي الناصر بالذات هو الله تعالى كما قال : (
الله ولي الذين آمنوا ) ( 2 : 257 ) وأن ولاية الرسول والمؤمنين تبع لولايته ، ولو قال : " إن أولياءكم الله ورسوله والذين آمنوا " لما أفاد هذا المعنى ; لأن هذا التعبير لا يدل على تفاوت ما بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهل يستوي الخالق والمخلوق ، والرب والمالك ، والعبد المملوك ؟ (
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) أي إذا كان الله هو وليكم وناصركم ، وكان الرسول والذين آمنوا أولياء لكم بالتبع لولايته فهم بذلك حزب الله تعالى والله ناصر لهم ، ومن يتول الله تعالى بالإيمان به والتوكل عليه ، ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم ، وبالاستنصار بهم دون أعدائهم ، فإنهم هم الغالبون ، فلا يغلب من يتولاهم ; لأنهم حزب الله تعالى ، ففيه وضع المظهر موضع الضمير ، ونكتته بيان علة كونهم هم الغالبين .
وقد استدلت
الشيعة بالآية على ثبوت إمامة علي بالنص ، بناء على ما روي من نزول الآية فيه ، وجعلوا الولي فيها بمعنى المتصرف في أمور الأمة ، وقد بينا ضعف كون المؤمنين في الآية يراد به شخص واحد . وعلمنا من السياق أن الولاية هاهنا ولاية النصر ، لا ولاية التصرف والحكم ; إذ لا مناسبة له في هذا السياق ، وقد رد عليهم
الرازي ، وغيره بوجوه ، وهذه المجادلات ضارة غير نافعة ، فهي التي فرقت الأمة وأضعفتها ، فلا نخوض فيها ، ولو كان في القرآن نص على الإمامة لما اختلف
الصحابة فيها ; أو لاحتج به بعضهم على بعض ، ولم ينقل ذلك .