(
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ) المثوبة كالمقولة من ثاب الشيء يثوب ، وثاب إليه ، إذا رجع ; فهي الجزاء والثواب ، واستعماله في الجزاء الحسن أكثر ، وقيل استعماله في الجزاء السيئ تهكم ، والمعنى هل أنبئكم يا معشر المستهزئين بديننا وأذاننا بما هو شر من عملكم هذا ثوابا وجزاء عند الله تعالى ؟ وهذا السؤال يستلزم سؤالا منهم عن ذلك ، وجوابه قوله تعالى : (
من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) أي إن الذي هو شر من ذلك ثوابا وجزاء عند الله ، هو عمل من لعنه الله ، أو جزاء من لعنه الله . . . إلخ . فهو على حد قوله تعالى : (
ولكن البر من اتقى ) ( 2 : 189 ) وقوله : (
ولكن البر من آمن بالله ) ( 2 : 177 ) وفي هذا التعبير وجه آخر ، وهو : هل أنبئكم بشر من أهل ذلك العمل مثوبة عند الله ؟ هم الذين لعنهم الله . . . إلخ . كما تقول في تفسير الآية الأخرى : ولكن ذا البر من اتقى .
انتقل بهذه الآية من تبكيت
اليهود وإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم بما تقدم ، إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم ، بما فيه من التذكير بسوء حالهم مع أنبيائهم ، وما كان من جزائهم على فسقهم ، وتمردهم بأشد ما جازى الله تعالى به الفاسقين الظالمين لأنفسهم ، وهو اللعن والغضب ، والمسخ الصوري أو المعنوي ، وعبادة الطاغوت ، وقد عظم شأن هذا المعنى بتقديم الاستفهام عليه ، المشوق إلى الأمر العظيم المنبأ عنه .
أما لعن الله فهو مبين مع سببه في عدة آيات من سورتي البقرة والنساء ، وقد تقدم تفسيره ، وكذا هذه السورة ( المائدة ) فسيأتي في غير هذه الآية ، خبر لعنهم ، ومنها أنهم لعنوا على لسان
داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام . وبعض ذلك اللعن مطلق ، وبعضه مقيد بأعمال لهم ; كنقض الميثاق . والفرية على
مريم العذراء ، وترك التناهي عن المنكر .
[ ص: 371 ] ومنه لعن أصحاب السبت ; أي الذين اعتدوا فيه . وقد ذكر في سورة البقرة مجملا ، وسيأتي في سورة الأعراف مفصلا .
والغضب الإلهي يلزم اللعنة وتلزمه ، بل اللعنة عبارة عن منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه ، وتقدم تفسير كل منهما .
وأما جعله منهم القردة والخنازير فتقدم في سورة البقرة ، وسيأتي في سورة الأعراف . قال تعالى في الأول : (
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ( 2 : 65 ) وقال بعد بيان اعتدائهم في السبت من الثانية : (
فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ( 7 : 166 ) وجمهور المفسرين على أن معنى ذلك أنهم مسخوا فكانوا قردة وخنازير حقيقة ، وانقرضوا ; لأن الممسوخ لا يكون له نسل كما ورد . وفي الدر المنثور " أخرج
ابن المنذر ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم في قوله : (
فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) قال : مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " ; فالمراد على هذا أنهم صاروا كالقردة في نزواتها ، والخنازير في اتباع شهواتها ، وتقدم في تفسير آية البقرة ترجيح هذا القول من جهة المعنى ، بعد نقله عن
مجاهد من رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير . قال : " مسخت قلوبهم ، ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا " ولا عبرة برد
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير قول
مجاهد هذا ، وترجيحه القول الآخر فذلك اجتهاده ، وكثيرا ما يرد به قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والجمهور . وليس قول
مجاهد بالبعيد من استعمال اللغة ; فمن فصيح اللغة أن تقول : ربى فلان الملك قومه أو جيشه على الشجاعة والغزو ، فجعل منهم الأسود الضواري ، وكان له منهم الذئاب المفترسة .
وأما
قوله تعالى : ( وعبد الطاغوت ) ففيه قراءتان سبعيتان متواترتان ، وعدة قراءات شاذة ، قرأ الجمهور " عبد " بالتحريك على أنه فعل ماض من العبادة ، و " الطاغوت " بالنصب مفعوله ، والجملة على هذا معطوفة على قوله : (
لعنه الله ) أي هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ؟ هم من لعنه الله ، وغضب عليه . . . إلخ ، ومن عبد الطاغوت . وقرأ
حمزة ( وعبد ) بفتح العين والدال وضم الباء ، وهو لغة في ( عبد ) بوزن ( بحر ) واحد العبيد ، وقرأ ( الطاغوت ) بالجر بالإضافة ، وهو على هذا معطوف على ( القردة ) أي وجعل منهم عبيد الطاغوت ، بناء على أن عبدا يراد به الجنس لا الواحد ، كما تقول : كاتب السلطان يشترط فيه كذا وكذا ، وقد تقدم أن الطاغوت اسم فيه معنى المبالغة من الطغيان الذي هو مجاوزة الحد المشروع والمعروف إلى الباطل والمنكر ; فهو يشمل كل مصادر طغيانهم ، وخصه بعض المفسرين بعبادة العجل ، ولا دليل على التخصيص .
(
أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) أي أولئك الموصوفون بما ذكر من المخازي
[ ص: 372 ] والشنائع شر مكانا ; إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار ، أو المراد بإثبات الشر لمكانهم إثباته لأنفسهم من باب الكناية ، الذي هو كإثبات الشيء بدليله ، وأضل عن قصد طريق الحق ووسطه الذي لا إفراط فيه ولا تفريط ، ومن كان هذا شأنه لا يحمله على الاستهزاء بدين المسلمين وصلاتهم وأذانهم واتخاذها هزؤا ولعبا إلا الجهل وعمى القلب .
(
وإذا جاءوكم قالوا آمنا ) الكلام في منافقي
اليهود الذين كانوا في
المدينة وجوارها ; أي ذلك شأنهم في حال البعد عنكم ، وإذا جاءوكم قالوا للرسول ولكم : إننا آمنا بالرسول ، وما أنزل عليه (
وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) أي والحال الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم متلبسين بالكفر ، وهم أنفسهم قد خرجوا متلبسين به ; فحالهم عند خروجهم هي حالهم عند دخولهم ، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول ، وما نزل من الحق ، ولكنهم يخادعونكم ، كما قال في آية البقرة : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ) ( 2 : 76 ) الآية (
والله أعلم بما كانوا يكتمون ) عند دخولهم من قصد تسقط الأخبار والتوسل إليه بالنفاق والخداع ، وعند خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم ، كما تقدم قريبا في تفسير (
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ) ونكتة قوله : (
وهم قد خرجوا به ) هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول ، وإنما احتاج هذا للتأكيد لمجيئه على خلاف الأصل ; لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره ، ويؤثر في قلبه ، حتى إذا كان سيئ الظن رجع عن سوء ظنه ، وأما سيئ القصد فلا علاج له ، وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله ، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبه ، وهذا هو المعقول الذي أيدته التجربة ، وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم ; لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار ، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع والتجسس وما يراد به ، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات ، ويفهمون مغزى الحكم والآداب .
(
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ( 33 : 4 ) .