(
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) هذا النداء توطئة لبيان ما يجب على المحرم المعتدي في الصيد من الجزاء والكفارة في الدنيا ، سبق في أول السورة تحريم الصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ومن كان في أرض الحرم ، وقد أعاده هنا ليرتب عليه جزاءه ، وتقدم هناك أن الحرم بضمتين جمع حرام وهو المحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل .
(
ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) أي ومن قتل شيئا من الصيد وهو محرم قاصد لقتله فجزاؤه أو فعليه جزاء من الأنعام مماثل لما قتله في هيئته وصورته إن وجد ، وإلا ففي قيمته ، وقيل : في قيمته مطلقا وسيأتي تحقيق الخلاف في ذلك ، قرأ
عاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " فجزاء " بالرفع والتنوين و " مثل " الرفع والإضافة لما بعده ، وهو ظاهر ، وقرأ الباقون بإضافة جزاء إلى مثل وهو مخرج على أن مثل الشيء عينه ، على حد "
ليس كمثله شيء " أو هو من قبيل خاتم فضة أي من فضة ، وأن المعنى فعليه جزاء الذي قتله ، أي جزاء عنه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أصله " فجزاء مثل ما قتل " بنصب مثل بمعنى فعليه أن يجزي مثل ما قتل من النعم ثم أضيف كما نقول : عجبت من ضرب زيدا ، ثم من ضرب زيد اه .
قتل المحرم بحج أو عمرة الصيد حرام بالإجماع لنص الآية ، ولكن
أكل المحرم ما صاده من ليس بمحرم مختلف فيه ، فقيل : يحرم مطلقا عملا بظاهر الآية الآتية ، وحديث
الصعب بن جثامة عن
أحمد ومسلم وغيرهما ، وقيل : يجوز مطلقا ، لما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة أكلوا مما أهدي إليهم من لحم الحمار الوحشي وهو التحقيق الذي يجمع به بين الروايات كما يدل عليه حديث
أبي قتادة في الصحيحين وغيرهما ، وهو الذي صاد الحمار الوحشي وأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في
الحديبية .
وقد اختلفوا في الصيد الذي نهت الآية عن قتله ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : هو كل حيوان وحشي يؤكل لحمه ، فلا جزاء في قتل الأهلي وما لا يؤكل لحمه من السباع والحشرات وهي كبيرة في مذهبه ، ومنها الفواسق الخمس التي ورد الإذن في حديث
عائشة في الصحيحين وغيرهما بقتلها في الحل والحرم وهي الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور .
[ ص: 87 ] وأخرجاه أيضا عن طريق
مالك وأيوب عن
نافع عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، قال
أيوب : قلت
لنافع فالحية : قال : الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها ، وألحق
مالك وأحمد وغيرهما بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد لأنها أشد ضررا منه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم nindex.php?page=showalam&ids=16008وسفيان بن عيينة : الكلب العقور يشمل هذا السباع العادية كلها ، وذهب
أبو حنيفة إلى وجوب الجزاء في قتل كل حيوان إلا الفواسق الخمس ، وجعل الذئب منها لأنه كلب بري ، والمراد بالغراب الأبقع الضار لا الأسحم الذي يؤكل فإنه صيد ، الحاصل أن الحيوانات الضارة التي تقل اتقاء ضررها ، لا جزاء على المحرم إذا قتلها ، طلب ذلك بعضهم ، قال
الحافظ ابن كثير وقال
مالك رحمه الله : لا يقتل الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد بن جبر وطائفة : لا يقتله بل يرميه ، وروي مثله عن
علي كرم الله وجهه ، وقد روى
هشيم : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد عن
nindex.php?page=showalam&ids=16331عبد الرحمن بن أبي نعم عن
أبي سعيد nindex.php?page=hadith&LINKID=919549عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال " الحية والعقرب والفويسقة ( أي الفأرة ) ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة " رواه
أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12289أحمد بن منيع كلاهما عن
هشيم ، ثم ذكر أن
الترمذي حسنه .
واختلفوا في
اشتراط التعمد لوجوب الجزاء ، فذهب أكثرهم إلى أنه لا يشترط التعمد وقالوا : إن الكتاب دل على جزاء المتعمد وسكت عن جزاء المخطئ ولكن السنة مضت بأن عليه الجزاء أيضا ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري :
والجمهور على أن المتعمد والقاصد لقتله مع ذكره لإحرامه وعلمه بحرمة قتل ما يقتله ، ومنهم من يشترط نسيان الإحرام ، ولم نر للجمهور حديثا مرفوعا يدل على تغريم المخطئ ، ولا رواية صحيحة صريحة في كون ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، إلا ما رواه
الحاكم عن
عمر أنه كتب بذلك ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وابن المنذر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار قال : رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ ، وما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري أصرح منه ، ولكن لا يعد مثل هذه دليلا شرعيا ، ولذلك احتج
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بالقياس على قتل الخطأ لا بالروايات ، ويشبه أن يكون قول
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار حكاية للإجماع ولكن لا يصح ، فالخلاف في المسألة مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير كلهم صرحوا باشتراط العمد وعبارة
nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس : لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ ، إنما يحكم على من أصابه عمدا ، والله ما قال الله إلا "
ومن قتله منكم متعمدا " وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين اشتراط العمد للقتل مع نسيان الإحرام ، والروايات في الخلاف مفصلة في الدر المنثور وغيره ، واشتراط العمد مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=15858داود الظاهري ، وقد شرح
الرازي استدلاله بالآية شرحا يؤذن باختياره له .
[ ص: 88 ] وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير ما يصح أن يكون بيانا لسبب الخلاف لولا إجمال فيه ، وذلك قوله : إنما كانت الكفارة فيمن قتل الصيد متعمدا ولكن غلظ عليهم في الخطأ كي يتقوا ، وانتهى ولم يبين من أين جاء التغليظ ، فإن صحت الرواية عن
عمر أنه كتب أن يحكم عليه في الخطأ والعند جاز أن يكون هذا اجتهادا منه في أحوال خاصة لسده ذريعة صيد العمد في حال الإحرام ، كما فعل في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد لمنع الناس منه ثم يتبعه الجمهور في هذا وذاك لأن الإمام الأعظم تجب طاعته في المسائل الاجتهادية ومراعاة المصلحة التي أرادها وعدم تعديها ، ومن لم يتبعه في ذلك ولا سيما بعد انقضاء خلافته يقول : إن اجتهاده ليس شرعا ولا دليلا من أدلة الشرع ، فكيف يؤخذ على علاته فيما كان كمسألتنا من المسائل المنصوصة في القرآن أو التي مضت فيها السنة قبله وفي صدر خلافته كمسألة الطلاق الثلاث ؟ هذا مع علمنا بأنه كان يخطئ فيرجع فيعترف بخطئه ويرجع عنه .
فإن قيل : إن العلماء المجتهدين قد اتبعوه في ذلك لإقرار الصحابة إياه عليه وعدم معارضتهم له كعادتهم فيما يرونه خطأ قلنا : إنه لم يثبت أنه عرض مسألة تغريم من قتل الصيد خطأ عن الصحابة وأقروه عليها ، وإنما قال
الحكم : " إنه كتب ، ولم يقل لمن كتب " والظاهر إن صح أنه لبعض عماله ، ويحتمل أن يكون في واقعة حال اقتضت ذلك ونص كتابه لم يذكر في الرواية ،
والحكم الذي روى هذا الأثر هو
ابن عتيبة الكندي الكوفي كما يظهر من إطلاق اسمه وهو على توثيق الجماعة له من المدلسين كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في الثقات وقال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=16349ابن مهدي :
nindex.php?page=showalam&ids=14152الحكم بن عتيبة ثقة ثبت ولكن يختلف معنى حديثه ، ولم نقف على رجال السند إليه عند الذين رووا الأثر عنه وهم
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور لنعرف درجة روايتهم ، وجملة القول أن هذا الأثر ليس بحجة ، وسيأتي ما صح من حكم
عمر .
بعد كتابة ما تقدم راجعت تفسير شيخ المفسرين
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري ، فإذا به قد أورد في روايته قول من قالوا : إن المراد من التعمد في الآية هو العمد لقتل الصيد مع نسيان قاتله لإحرامه حال قتله إياه ، وقول من قالوا : إنه العمد لقتله مع ذكر قاتله لإحرامه ولكنه ذكر في هذه الروايات قول من قالوا بالجزاء في العمد بالكتاب وفي الخطأ بالسنة أو لسد الذريعة وحفظ حرمات الله أي بالقياس ثم قال :
" والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال إن الله تعالى حرم قتل صيد البر على كل محرم في حال إحرامه ما دام حراما بقوله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ثم بين حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدا لقتله ولم
[ ص: 89 ] يخصص المتعمد قتله في حال نسيانه إحرامه ، ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه بل عم في إيجاب الجزاء على كل قاتل صيد في حال إحرامه متعمدا ، وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نص كتاب ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع عن الأمة ولا دلالة من بعض هذه الوجوه ، فإذا كان كذلك فسواء كان قاتل الصيد من المحرمين عامدا قتله ذاكرا لإحرامه ، أم عامدا قتله ناسيا لإحرامه ، أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه ، فإن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى وهو : (
مثل ما قتل من النعم ) إلخ .
أقول : هذا هو الاستدلال الصحيح المبين ، لكن لا يظهر دخول القسم الأخير من التفصيل فيه ، وهو قوله : " أو قاصدا غيره فقتله ذاكرا لإحرامه " ; لأن هذا من قتل الخطأ لا العمد إلا أن يريد صورة معينة وهي أن يقصد قتل صيد غيره وهو ذاكر لإحرامه ، إذ يصدق عليه حينئذ أنه قصد قتل الصيد بإطلاق ، وأنه منتهك لحرمة الإحرام ، ولعل هذا هو المراد ، ويقرب منه ما إذا قصد رميه لجرحه لا لقتله ، وأما إذا
رمى غرضا لا حيوانا أو حيوانا يباح قتله كالكلب العقور فأصاب سهمه أو رصاصه صيدا لم يكن يراه مثلا فلا جزاء فيه في هذا بمقتضى الدليل الذي قرره ، وسيأتي أن
عمر قال في مثله إنه أشرك فيه العمد بالخطأ .
ثم قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : وأما ما يلزم بالخطأ قاتله فقد بينا القول فيه في كتابنا ( كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع ، وليس هذا الموضع موضع ذكره لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنزيل ، وليس في التنزيل للخطأ ذكر فنذكر أحكامه . اه .
واختلفوا في المثل المراد من الآية ، فذهب الجمهور إلى اعتبار مثل المقتول في خلقه كصورته وفعله وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي إلى اعتبار القيمة وتبعه
أبو حنيفة وأبو يوسف ، والأول مؤيد بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحكم علماء الصحابة ، روى
أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ،
والحاكم عن
جابر قال "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919550جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد " ; أي لأنه يؤكل لحمه كما ثبت في غير هذا الحديث أيضا ، وقد روي مرفوعا وموقوفا ، وذكر
الترمذي أنه سأل
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن هذا الحديث فصححه ، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني عن
الأجلح بن عبد الله عن
أبي الزبير عن
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003282في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبي شاة ، وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ، قال : الجفرة التي قد ارتعت ،
والأجلح هذا قال
أبو حاتم : لا يحتج بحديثه ، ووثقه
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي : صدوق ، قال الحافظ
[ ص: 90 ] في تقريب التهذيب : صدوق شيعي من السابعة ، فاعتمد توثيقه ، وقال
الشوكاني في نيل الأوطار : وحديث
جابر أخرجه
البيهقي وأبو يعلى وقالا : عن
عمر رفعه ، وأما
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني فرواه عن طريق
إبراهيم الصائغ عن
عطاء عن
جابر يرفعه وكذلك
الحكم ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن
مالك عن
أبي الزبير موقوفا على
جابر وصحح وقفه
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني من هذا الوجه .
وقال
السيوطي في الدر المنثور : وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12508ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن
جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919551الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مسن وتؤكل " .
أقول : والحديث يدل على اعتبار السن في المماثلة فالعنز بالتحريك أنثى المعز كالنعجة من الضأن ، والعناق بالفتح الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة والجفرة بفتح الجيم الأنثى من ولد الضأن التي بلغت أربعة أشهر .