الجمع بين إثبات الرأي وإنكاره .
ثم عقد
ابن القيم فصلا للفصل بين الرأي الذي يعمل به والذي لا يعمل به فقال :
" ولا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار ، عن السادة الأخيار ، بل كلها حق وكل منها له وجه . وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين ، فنقول والله المستعان :
الرأي في الأصل مصدر رأى الشيء يراه رأيا ، ثم غلب استعماله على المرئي نفسه ، من باب استعمال المصدر في المفعول ، كالهوى في الأصل مصدر هويه يهواه هوى ، ثم استعمل في الشيء الذي يهوى فيقال : هذا هوى فلان . والعرب تفرق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالها ، فتقول : رأى كذا في النوم رؤيا ورآه في اليقظة رؤية ، ورأى كذا رأيا لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين ولكنهم خصوه بما يراه القلب بعد فك وتأمل ،
[ ص: 135 ] وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات ، فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرا غائبا عنه مما يحس به : إنه رأيه ، ولا يقال أيضا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات : إنه رأى ، وإن احتاج إلى فكر وتأمل ، كدقائق الحساب ونحوها .
" وإذا عرف هذا
فالرأي ثلاثة أقسام : رأي باطل بلا ريب ، ورأي صحيح ، ورأي هو موضع الاشتباه . والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف ، فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به ، وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به ، وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله .
" والقسم الثالث : سوغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ، ولم يلزموا أحدا العمل به ، ولم يحرموا مخالفته ، ولا جعلوا مخالفه مخالفا للدين ، بل خيروا بين قبوله ورده ، فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه . كما قال الإمام
أحمد : سألت
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عن القياس فقال لي : عند الضرورة . وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة ، لم يفرطوا فيه ويفرعوه ويولدوه ويوسعوه . كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار ، وكان أسهل عليهم من حفظها ، كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتعسر حفظه ، فلم يتعدوا في استعماله قدر الضرورة ، ولم يبغوا بالعدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار ، كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المحرم : (
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) ( 2 : 173 ) فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصل إلى المذكى ، والعادي الذي يتعدى قدر الحاجة بأكلها .
ثم بين رحمه الله تعالى أن
الرأي الباطل أنواع قال :
( النوع الأول ) : الرأي المخالف للنصوص . وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ، ولا تحل الفتيا به ولا القضاء ، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد .
( النوع الثاني ) : هو الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها . فإن من جهلها وقاس برأيه فيما سئل بغير علم ، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر ، أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما يفرق بينهما في الحكم من غير نظر في النصوص والآثار ، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل .
( النوع الثالث ) : الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهل البدع والضلال إلخ .
( النوع الرابع ) : الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن ، وعم به البلاء ، وتربى عليه الصغير ، وهرم فيه الكبير .
[ ص: 136 ] ( قال ) : فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وإخراجه من الدين .
( النوع الخامس ) : ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، ورد الفروع بعضها على بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها إلخ .
( أقول ) : ثم ذكر أن في هذا تعطيل السنن ، واستشهد على بطلان هذا الرأي وما فسره به بالأحاديث الواردة في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات ، وعن عضل المسائل ، وعن كثرة المسائل ، وقد أورد
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر في هذا الفصل أكثر ما أوردناه آنفا عن فتح الباري ، ومنه ما ورد في سبب نزول الآية التي نحن بصدد تفسيرها .