استدلالهم بالقرآن على القياس :
( الدليل الأول ) : قوله تعالى : (
فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ( 59 : 2 ) وقد نقل عن المحصول للإمام
الرازي رد الاستدلال بهذه الآية على القياس الفقهي من وجوه ، وبحث فيما اختاره من كون الاعتبار حقيقة في المجاوزة ، ووافقه على كون الآية غير حجة للقياسيين فقال : " والحاصل : أن هذه الآية لا تدل على القياس الشرعي لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ، ومن أطال الكلام في الاستدلال بها فقد شغل الحيز بما لا طائل تحته " .
( الدليل الثاني والثالث ) : قوله تعالى : (
فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) ( 5 : 95 )
[ ص: 155 ] وقوله تعالى : (
وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ( 2 : 144 ) وهذان مما استدل به الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في رسالته .
قال
الشوكاني : ولا يخفاك أن غاية ما في آية الجزاء هي المجيء بمثل ذلك الصيد وكونه مثلا له موكول إلى العدلين ومفوض إلى اجتهادهما ، وليس في هذا دليل على القياس الذي هو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة . وكذلك الأمر بالتوجه إلى القبلة ، فليس فيه إلا إيجاب تحري الصواب في أمرها ، وليس ذلك من القياس في شيء .
( الدليل الرابع ) : ما استدل به
ابن سريج وهو قوله تعالى : (
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 : 83 ) قال
الشوكاني : قالوا : أولو الأمر هم العلماء ، والاستنباط هو القياس . ويجاب عنه بأن الاستنباط هو استخراج الدليل من المدلول بالنظر فيما يفيده من العموم أو الخصوص أو الإطلاق أو التقييد أو الإجمال أو التبيين في نفس النصوص ، أو نحو ذلك مما يكون طريقا إلى استخراج الدليل منه . ولو سلمنا اندراج القياس تحت مسمى الاستنباط لكان ذلك مخصوصا بالقياس المنصوص على علته وقياس الفحوى ونحوه ، لا بما كان ملحقا بمسلك من مسالك العلة التي هي محض رأي لم يدل عليها دليل من الشرع ، فإن ذلك ليس من الاستنباط من الشرع بما أذن الله به ، بل من الاستنباط بما لم يأذن الله به . اهـ .
أقول : وقد بينا في تفسير الآية أن أولي الأمر ليسوا هم علماء الفقه المعروف وأصوله ، بل هم أولو الحل والعقد من الأمة . فراجعه في محله .
( الدليل الخامس ) : ما استدل به
ابن سريج ، وهو قوله تعالى : (
يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) ( 2 : 26 ) قال : لأن القياس هو تشبيه الشيء بالشيء ، فما جاز من فعل من لا تخفى عليه خافية فهو ممن لا يخلو من الجهالة والنقص أجوز . واعتمد
الشوكاني في رد هذا الاستدلال قلبه على صاحبه ببيان أن من لا تخفى عليه خافية ، فكل ما يضربه من مثل وما يثبته من تشبيه شيء بشيء يجب أن يكون صحيحا ، وأما من لا يخلو من النقص والجهل فلا نقطع بصحة ذلك منه ولا نظنه لما في فاعله من الجهالة والنقص .
وأقول : إن تقرير هذا الاستدلال هفوة من أكبر الهفوات ، بل سقطة من أقبح السقطات ، فإنه على كونه ليس من الموضوع في ورد ولا صدر عبارة عن قياس العبد على الرب ، وجعله أحق بالتشريع وأجدر ، وقد أطال
ابن القيم رحمه الله تعالى في مسألة أمثال القرآن من سياقه الذي اختصرناه ، فيراجع في كتابه .
( الدليل السادس ) : قوله تعالى في الرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم : (
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) ( 36 : 79 )
[ ص: 156 ] قال
الشوكاني : ويجاب عنه بمنع كون هذه الآية لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ، وغاية ما فيها الاستدلال بالأثر السابق على الأثر اللاحق وكون المؤثر فيهما واحدا ، وذلك غير القياس الشرعي الذي هو إدراج فرع تحت أصل لعلة جامعة بينهما .
( الدليل السابع ) : قوله تعالى : (
إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ( 16 : 90 ) وقد نسبه إلى
ابن تيمية ( قال ) : وتقريره أن العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية . ويجاب عنه بمنع كون الآية دليلا على المطلوب بوجه من الوجوه ، ولو سلمنا لكان ذلك في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها ، لا في الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ، ونوع من أنواع الظنون الزائفة ، وخصلة من خصال الخيالات المختلة اهـ .
أقول : أخطأ
الشوكاني ههنا وأصاب - أصاب فيما رمى إليه من كون الأمر بالعدل ليس دليلا على القياس الفقهي المعروف الذي يجعل كل ما يوزن في حكم النقدين من الذهب والفضة ، وكل ما يكال في حكم البر والشعير والتمر والملح ، ويجعل مسبر الجراح مفطرا للصائم كالطعام والشراب ، وأخطأ مراد
ابن تيمية من القياس والعدل إذ يظهر أنه لم يطلع على ما كتبه هو ثم تلميذه
ابن القيم في ذلك وهو عين ما سلم دلالة الآية عليه ، وسنعود إلى ذكر مذهبهما فيه .