[ ص: 159 ] (
القياس الصحيح ) .
وإذا عرفت ما حررنا ، وتقرر لديك جميع ما قررنا ، فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على علته وما قطع فيه بنفي الفارق ، وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب على اصطلاح من يسمي ذلك قياسا ، وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة .
ثم اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياسا وإن كان منصوصا على علته أو مقطوعا فيه بنفي الفارق ، بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولا عليه بدليل الأصل مشمولا به مندرجا تحته ، وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر عندك ما استعظموه ، ويقرب لديك ما بعدوه; لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار لفظيا ، وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه ، واختلاف طريقة العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، وقد قدمنا لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ، ولا تستحق تطويل ذيول البحث بذكرها ، وبيان ذلك : أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا تفي بالأحكام ؛ فإنها متناهية والحوادث غير متناهية .
ويجاب عن هذا بما قدمناه من إخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها ، وبما أخبرها رسوله صلى الله عليه وسلم من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها .
ثم لا يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ، ويقوم ببيان كل نازلة تنزل ، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله اهـ .
ثم قال
الشوكاني عند الكلام على النص من مسالك العلة في القياس ما نصه :
" واعلم أنه لا خلاف في الأخذ بالعلة إذا كانت منصوصة ، وإنما اختلفوا
هل الأخذ بها من باب القياس أم من العمل بالنص ؟ فذهب إلى الأول الجمهور ، وذهب إلى الثاني النافون للقياس ، فيكون الخلاف على هذا لفظيا . وعند ذلك يهون الخطب ويصغر ما استعظم من الخلاف في هذه المسألة . فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل التأويل عن كل ما تجري العلة فيه كان المتعلق به مستدلا بلفظ قاض بالعموم " اهـ .
أقول : إن بعض الناس لا يعد كل تعليل في النصوص من قبيل العام ، فيجري كل ما تحققت فيه العلة مجرى أفراد العام في حكمه ، فالخلاف بين هؤلاء وبين الذين ينوطون الأحكام بالعلل المنصوصة حقيقي لا لفظي ، سواء كانوا يسمون ذلك عملا بالنص أو قياسا ، وإنما الخلاف
[ ص: 160 ] اللفظي بين هذين الفريقين المتفقين على تحكيم العلل المنصوصة .
وابن تيمية وابن القيم من علماء الأثر إنما يوافقان الجمهور على إثبات القياس بهذا المعنى ، ويريان أنه بهذا المعنى داخل في مفهوم كلمتي العدل والميزان وهذا حق ، ومن مقتضاه أنه خاص بأحكام المعاملات دون العبادات المحضة ، فإن العبادات قد استوفتها النصوص وبينتها السنة العملية ، فلا وجه للزيادة فيها أو النقص منها ، ولا لإيقاع شيء منها على غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال
حذيفة رضي الله عنه : " كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها " والآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء السلف الصالحين في هذا كثيرة ، ومن تتبع ما زاده بعض الفقهاء في أحكام العبادات بالقياس عما كان عليه أهل الصدر الأول لم ير لشيء منه حجة قيمة ولا قياسا صحيحا .