فأما الاستدلال فقد علم مما تقدم أن له من القرآن مأخذين :
( المأخذ الأول ) : جعل قوله تعالى : (
وأشهدوا ذوي عدل منكم ) مقيدا للإطلاق في قوله تعالى : (
وأشهدوا إذا تبايعتم ) وفي هذا الاستدلال أبحاث .
( أحدها ) : أنه من مسائل الأصول التي اختلف فيها المتفقهون على منع شهادة غير المسلم على المسلم ، وقد اتفقوا على أن
المطلق والمقيد إذا اختلفا في السبب والحكم لا يحمل أحدهما على الآخر ، وإذا اتفقا فالخلاف في عدم الحمل ضعيف والجمهور على الحمل ، وأما إذا اختلفا في السبب دون الحكم كمسائل الإشهاد على النساء واليتامى والبيع والوصية وكذا عتق الرقبة في كفارات القتل والظهار واليمين . فالخلاف في الحمل وعدمه قوي والأقوال فيه متعددة . فلم اتفق المختلفون فيها على منع شهادة غير المسلم مطلقا أو فيما عدا الوصية أو الطب ؟ .
( ثانيها ) : أن الإشهاد الاختياري غير الشهادة . فالأمر باختيار أفضل الناس إيمانا وعدالة للإشهاد لا يستلزم عدم الاعتداد بشهادة من دونهم في الفضيلة . فإن الشهادة بينة . والبينة كل ما يتبين به الحق ، كما يدل عليه استعمال الكتاب والسنة وقد أطال العلامة
ابن القيم في إثبات هذا وإيضاحه في كتاب ( إعلام الموقعين ) .
( ثالثها ) : أن قوله تعالى : (
ممن ترضون من الشهداء ) فيه توسعة عظيمة في الإشهاد ونحن إلى التوسعة في الشهادة نفسها أحوج ، فإن كثيرا من الجنايات والعقود والإقرار قد تقع من بعض المسلمين على مرأى ومسمع من غيرهم وقد يكون هؤلاء الذين سمعوا ورأوا من أهل الصدق والأمانة; لأن دينهم يحرم الكذب والخيانة . فلماذا نضيع أمثال هذه الحقوق التي يمكن إثباتها بشهادتهم إذا تجرأ الذين أنكروها على اليمين كما تجرءوا على الكذب بالإنكار ؟
( المأخذ الثاني ) : أن الله تعالى قد أمرنا أن
نشهد ذوي عدل منا معشر المؤمنين ، وعلة ذلك بديهية وهي أن المؤمن العدل ، يتحرى الصدق الذي يثبت به الحق ، ونحن نشترط في قبول الشهادة الأمرين . ونرى أن غير المؤمن المسلم لا يكون صادقا عدلا . وإذا كان
فقد العدالة يوجب رد الشهادة عندنا ففقد الإيمان أولى بذلك .
وفي هذا الاستدلال نظر من وجهين ( أحدهما ) : أن الإيمان بالله وبشرع له يحرم الكذب كاف لتحقيق المقصد الذي تتوخونه من الشهادة ، وهذا مما يوجد في غير الإسلام من الملل ، وقولكم : إن غير المسلم لا يكون صادقا ولا عدلا لا دليل عليه من النقل ، ولا من سيرة البشر المعلومة بالاختبار والعقل
[ ص: 197 ] أما النقل فقد جاء على خلافه فإن الله تعالى يقول : (
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( 7 : 159 ) فإن حمل هذا على من كان قبل بعثة نبينا أو على من آمن به فلا يمكن أن يحمل عليهم قوله تعالى : (
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) ( 3 : 75 ) فهذه شهادة لهم بالأمانة وقد استشهد الرسول صلى الله عليه وسلم بعض اليهود على آية الرجم في التوراة فاعترف بها بعضهم لما أقسم عليه بالله الذي أنزل التوارة على
موسى [ راجع ص 319 ج6ط الهيئة ] وقد بينا في التفسير مرارا عدل القرآن ودقته في الحكم بالفساد على الأمم ، إذ يحكم على الأكثر أن يستثنى بعد إطلاق الحكم العام . وما روي من قبول النبي صلى الله عليه وسلم ثم
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لشهادتهم في الوصية عملا بالقرآن مبني على أن الأصل في خبر الإنسان الصدق وإن كان كافرا ، وأنه لا يعدل عن هذا الأصل إلا عند وجود التهمة ، وعليه جمهور السلف وهو يستلزم إثبات عدالتهم كما تقدم عن
الحافظ ابن حجر ( ص194 ) وبها يسقط قياس الكافر على الفاسق وقد قبل المحدثون
رواية المبتدع الذي يحرم الكذب مطلقا أو فيما عدا تأييد بدعته ، وأما سيرة البشر المعلومة بنقل المؤرخين وبسنن الله في أخلاق البشر وطباعهم التي هي القانون العقلي لمن يريد الحكم الصحيح عليهم فهي مؤيدة لحكم القرآن العادل على المشركين والكفار من العرب والعجم بمثل قوله : (
وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) ( 7 : 102 ) وقوله في عدة آيات : (
ولكن أكثرهم لا يعلمون ) (
ولكن أكثرهم لا يشكرون ) (
ولكن أكثرهم يجهلون ) (
وأكثرهم للحق كارهون ) (
وأكثرهم فاسقون ) (
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ) ومثل هذا كثير . وهو خاص بأحوال الأمم في طور الفساد وضعف الدين والأخلاق ، الذي كان عليه جميع أهل الملل عند ظهور الإسلام فننتقل إذا إلى بيان المسألة الثانية التي نراها هي السبب الاجتماعي الحقيقي لعدم قبول شهادة غير المسلم فنقول :
[ الثاني ] : حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول :
إن حالة الأمم الاجتماعية والسياسية والأدبية لها شأن كبير في تطبيق الأحكام على الوقائع وهو ما يسميه علماء الأصول ( تحقيق المناط ) ومن عرف التاريخ وفقه قواعد علم الاجتماع منه فإنه هو الذي يفقه
سبب إعراض الفقهاء والحكام عن قبول شهادة غير المسلمين عليهم ، وأحق ما يجب فقهه من تلك القواعد أربع ينبغي التأمل فيها بعين العقل والإنصاف .
( الأولى ) : ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى للإسلام من الاستمساك بعروة الحق
[ ص: 198 ] وإقامة ميزان العدل ، وعدم المحاباة والتفرقة في ذلك بين مؤمن وكافر وقريب وبعيد وصديق وعدو ، عملا بنصوص القرآن .
( الثانية ) : ما كان عليه جميع الأمم التي فتحوا بلادها ، وأقاموا شريعتهم فيها من ضعف وازع الدين وفساد الأخلاق والآداب ، وقد قرر ذلك مؤرخو الإفرنج وغيرهم وجعلوه أول الأسباب الاجتماعية لسرعة الفتح الإسلامي في الخافقين .
( الثالثة ) : ما جرى عليه الفاتحون من المسلمين من المبالغة في التوسعة على أهل ذمتهم في الاستقلال الديني والمدني; إذ كانوا يسمحون لهم بأن يتحاكموا إلى رؤسائهم في الأمور الشخصية وغيرها ، فكان من المعقول مع هذا ألا يشهدوهم على قضايا أنفسهم الخاصة ، وأن يمنعهم نظرهم إلى ما بينهما من التفاوت في الأحوال الدينية والأدبية التي أشرنا إليها آنفا من قبول شهادتهم على أنفسهم ، مع عدم ثقتهم وعدالتهم .
( الرابعة ) : تأثير عزة السلطان وعهد الفتح الذي كانت الأحكام فيه أشبه بما يسمونه الآن بالأحكام العسكرية . واعتبر ذلك بأحكام دول الإفرنج في أيام الحرب ، بل في المستعمرات التي طال عليها عهد الفتح أو ما يشبه الفتح . يتبين لك أن أشد أحكام فقهاء المسلمين وحكامهم على غيرهم هي أقرب إلى العدل والرحمة من أحكام أرقى أمم المدنية من دونهم .
وقد علم من حال البشر أن الغالب قلما يرى شيئا من فضائل المغلوب وإن كثرت ، فكيف يرجى أن يرى قليلها الضئيل الخفي ؟ والجماعات الكبيرة والصغيرة كالأفراد في نظر كل إلى نفسه وإلى أبناء جنسه بعين الرضا وإلى مخالفه بعين السخط ، مثال ذلك : أن امرأة من فضليات نساء
سويسرة دينا وأدبا وعلما راقبت أحوال الأستاذ الإمام وسيرته مدة طويلة إذ كان يختلف إلى مدرسة (
جنيف ) لتلقي آداب اللغة الفرنسية ، وكلمته مرارا في مسائل علم الأخلاق والتربية وكانت بارعة ومصنفة فيهما فأعجبها رأيه ، كما أعجبها فضله وهديه ، ثم قالت له بعد ذلك : إنني لم أكن أظن قبل أن عرفتك أن القداسة توجد في غير المسيحيين .
فمن تأمل ما ذكر تجلت له الأسباب المعنوية والاجتماعية التي صدت الحكام والفقهاء عن قبول شهادة غير المسلم على المسلم ، وتعجب من سعة أحكام القرآن ، التي يتوهم الجاهلون أنها ضد ما هي عليه من الإطلاق وموافقة كل زمان ومكان ، فتراهم ينسبون إلى القرآن كل ما ينكرونه على المسلمين من آرائهم وأعمالهم وأحكامهم بالحق أو بالباطل ، ولو كان المسلمون عاملين بالقرآن كما يجب لما أنكر عليهم أحد ، بل لاتبعهم الناس في هديهم . كما اتبعوا سلفهم من قبلهم بل لكانوا أشد اتباعا لهم . بما يظهر لهم من موافقة هدايته لهذا الزمان كغيره ، وكونها أرقى من كل ما وصل إليه البشر من نظام وأحكام ، وهذا من أجل معجزاته التي تتجدد بتجدد الأزمان .