[ ص: 234 ] ( القسم الثاني )
( ما ورد من
الأخبار والحجاج والأحكام في شأن أهل الكتاب ) .
من الآيات في هذا القسم ما نزل في شأن
أهل الكتاب عامة ومنه ما هو في أحد الفريقين خاصة . فمن المشترك : وصفهم بالغلو في دينهم المستلزم للتعصب الضار ، وباتباعهم أهواء من ضل قبلهم من
الوثنيين وغيرهم ، وبالغرور في دينهم وزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وبأنهم مع ذلك نقضوا ميثاق ربهم ونسوا حظا عظيما مما ذكرهم الله به على ألسنة أنبيائهم ، ولم يقيموا التوراة والإنجيل كما أوجب الله عليهم ، وقد فند دعواهم أنهم أبناؤه وأحباؤه بما يأتي ذكره قريبا وبين الله لهم حقيقة الأمر وهي أنهم بشر ممن خلق الله ، لا مزية لهم على سائر البشر في أنفسهم وذواتهم; لأن البشر إنما يمتاز بعضهم على بعض بالعلوم الصحيحة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة ، لا بالنسب والانتماء إلى الأنبياء والصالحين وإن كانوا مخالفين لهم في هدايتهم .
وذكر من جزائهم على سوء أعمالهم في الدنيا إلقاء العداوة والبغضاء بينهم ، وأنه يعذبهم في الدنيا بذنوبهم الشخصية والقومية كغيرهم ، وأن ذلك يدحض دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، ودعاهم كافة للإسلام ، والإيمان بخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ، الذي بين لهم حقيقة دينهم الذي كان عليه سلفهم ، ودحض ما زادوا فيه بالبرهان ، وبين بعض ما كانوا يخفون أو يجهلون منه أحسن بيان .
ووصف التوراة والإنجيل أحسن وصف . وذكر من أخبار التوراة قصة ابني
آدم بالحق ، ومن أحكامها عقوبات القتل وإتلاف الأعضاء والجروح ، ومن أخبار الإنجيل
والمسيح ما هو حجة على الفريقين ، وبين أن الكتابين أنزلا نورا وهدى للناس ، وأنهم لو كانوا أقاموهما لكانوا في أحسن حال ، ولسارعوا إلى الإيمان بما أنزله الله على خاتم رسله مصدقا لأصلهما ، ومبينا لما طرأ عليهما ، ومكملا لدين الأنبياء جميعا ، على سنة الله في النشوء والارتقاء ، التي هي أظهر في البشر منها في سائر الأشياء ، ولكنهم اتخذوا الإسلام هزؤا ولعبا في جملته وفي صلاته ، ووالوا عليه المناصبين له من أعدائه ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم .
ومما جاء في
اليهود خاصة نعيا عليهم وبيانا لسوء حالهم أنهم نقضوا ميثاق الله الذي
[ ص: 235 ] أخذه عليهم في كتابهم ونسوا حظا عظيما مما ذكروا به ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وتركوا الحكم بالتوراة وأخفوا بعض أحكامها ، وحكموا الرسول ولم يرضوا بحكمه الموافق لها ، وأن من صفاتهم الغالبة عليهم قساوة القلب ، والخيانة والمكر ، والكذب وقول الإثم ،
والمبالغة في سماع الكذب وأكل السحت ،
والسعي بالفساد في الأرض ، وفي إيقاد نار الفتن والحرب . وأنهم كانوا
يقتلون الأنبياء والرسل بغير حق ، وتمردوا على
موسى إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة وقتال الجبارين فعاقبهم الله بالتيه في الأرض ، وأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين ، حتى أنهم يوالون عليهم المشركين ، بسبب ما ورثوه من تلك الصفات عن الغابرين ، وذكر أنه عاقبهم على ذلك كله باللعن على ألسنة الرسل ، وبالغضب والمسخ ، وهذه الصفات التي غلبت عليهم في زمن البعثة وقبله تثبتها تواريخهم وتواريخ غيرهم ، ومن المعلوم أنها لم تكن عامة فيهم ولا شاملة لجميع أفرادهم ، فقد أنصفهم الحكم العدل في هذه السورة وغيرها بالحكم على الكثير منهم أو على أكثرهم . ومنه قوله في هذه السورة : (
منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) ( 5 : 66 ) وبينا في هذا الموضوع ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من مساعدة
اليهود للمسلمين في
الشام والأندلس لعدلهم فيهم على
النصارى الظالمين لهم .
ومما جاء في
النصارى خاصة أنهم نسوا
كاليهود حظا مما ذكروا به ، وأنهم قالوا : إن الله هو
المسيح ابن مريم ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، ورد عليهم هذه العقيدة بالأدلة العقلية ، وببراءة
المسيح منها ومن منتحليها يوم القيامة ، وبين لهم حقيقة
المسيح وأنه عبد الله ورسوله وروح منه ، وما أيده به من الآيات ، وحال حوارييه وتلاميذه في الإيمان ، وبين أنهم أقرب الناس مودة للمؤمنين (
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) ( 5 : 82 ) فليراجع تفسير ذلك في أول الجزء السابع .
وجملة الآيات الواردة في
أهل الكتاب تشهد لنفسها أنها من عند الله تعالى لا من عند
محمد بن عبد الله العربي الأمي الذي لم يقرأ شيئا من تلك الكتب ، على أن تلك الآيات ليست موافقة لها ولهم موافقة الناقل للمنقول عنه ، وإنما هي فوق ذلك تحكم لهم وعليهم وفيهم وفي كتبهم حكم المهيمن السميع العليم
[ ص: 236 ] أحكام السورة الخاصة
بأهل الكتاب :
لو كان هذا القرآن من وضع البشر لشرع معاملة أهل الكتاب الموصوفين بما ذكر ولا سيما الذين ناصبوا الإسلام بالعداء عند ظهوره بأشد الأحكام وأقساها . ولكنه تنزيل من حكيم حميد ، أمر في هذه السورة ، بمعاملتهم بالعدل ، والحكم بينهم بالقسط ، وحكم بحل مؤاكلتهم ، وتزوج نسائهم ، وقبول شهادتهم ، والعفو والصفح عنهم ، وهذه الأحكام التي شرعت هذه المعاملة الفضلى لهم نزلت بعد إظهار
اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين منتهى العداوة والغدر ، وبعد أن ناصبوه مع المشركين الحرب ، وهي تتضمن تأليف قلوبهم ، واكتساب مودتهم [ راجع ص 161 ، 162 ج 6 ط الهيئة ] .
وقد ختم الله تعالى السورة بذكر الجزاء في الآخرة بما يناسب أحكامها كلها ، كما بيناه في تفسير آخر آية منها .
روى
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي والحاكم وصححه
والبيهقي في سننه وبعض رواة التفسير عن
nindex.php?page=showalam&ids=15622جبير بن نفير قال " حججت فدخلت على
عائشة فقالت لي : يا
جبير تقرأ المائدة ؟ قلت : نعم ، فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه . وروى
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي وحسنه
والحاكم وصححه
والبيهقي في سننه عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو قال " آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح وقد تقدم في آخر تفسير سورة النساء بعض ما ورد في آخر ما نزل من القرآن من السور برمتها ومن الآيات ، وكان كل يروي ما وصل إليه علمه ، والله أعلم .
( تم تفسير سورة المائدة ) .
( يقول
محمد رشيد مؤلف هذا التفسير قد وفقني الله تعالى لإتمام تفسير هذه السورة في أوائل شهر ربيع الآخر سنة 1334 هـ وكنت بدأت بتفسيرها في مثل هذا الشهر من سنة 1331 وسبب هذا البطء أنني أكتب التفسير لينشر في مجلة المنار فتارة أفسر في الجزء منه بضع آيات ، وتارة أفسر آية واحدة في عدة أجزاء وقد يمر شهر أو أكثر ولا أكتب في التفسير شيئا ، وأسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمام هذا التفسير بمنع العوائق والمباركة في الوقت وأن يؤيدني فيه بروح من عنده ) .
أمر الجزاء إليه تعالى