فصل جامع لخصته من كلام صاحب " المستوفى " في العربية
قال :
تقسيمهم الوقف إلى الجودة والحسن والقبح والكفاية ، وغير ذلك ، وإن كان يدل على ذلك فليست القسمة بها صحيحة مستوفاة على مستعملها ، وقد حصل لقائلها من التشويش ما إذا شئت وجدته في كتبهم المصنفة في الوقوف .
فالوجه أن يقال : الوقف ضربان اضطراري واختياري .
فالاضطراري ما يدعو إليه انقطاع النفس فقط ; وذلك لا يخص موضعا دون موضع ; حتى إن
حمزة كان يقف في حرفه على كل كلمة تقع فيها الهمزة متوسطة أو متطرفة إذا أراد تسهيلها ; وحتى إنه روي عنه الوقف على المضاف دون المضاف إليه ، في نحو قوله :
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات ( البقرة : 207 ) قالوا : وقف هنا بالتاء على نحو جاءني
[ ص: 514 ] " طلحت " إشعارا بأن الكلام لم يتم عند ذاك ، وكوقفه على إلى من قوله :
وإذا خلوا إلى ( البقرة : 14 ) بإلقاء حركة الهمزة على الساكن قبلها ، كهذه الصورة " خلو لى " ، وعلى هذا يجوز أن يقف في المنظوم من القول حيث شئت ، وهذا هو أحسن الوقفين .
والاختياري وهو أفضلهما ; هو الذي لا يكون باعتبار انفصال ما بين جزأي القول ، وينقسم بانقسام الانفصال أقساما :
الأول :
التام ; وهو الذي يكون بحيث يستغني كل واحد من جزأي القولين اللذين يكتنفانه عن الآخر ; كالوقف على : ( نستعين ) ( الفاتحة : 5 ) ، من قوله :
إياك نعبد وإياك نستعين ، والآخر :
اهدنا الصراط المستقيم ( الفاتحة : 6 ) مستغن عن الآخر من حيث الإفادة النحوية والتعلق اللفظي .
الثاني :
الناقص ; وهو أن يكون ما قبله مستغنيا عما بعده ; ولا يكون ما بعده مستغنيا عما قبله ، كالوقف على المستقيم من قوله :
اهدنا الصراط المستقيم ( الفاتحة : 6 ) ، ولأن لك أن تسكت على
اهدنا الصراط المستقيم ، وليس لك أن تقول مبتدئا :
صراط الذين أنعمت عليهم ( الفاتحة : 7 ) .
فإن قيل : ولم لا يجوز أن يقدر هاهنا الفعل الذي ينتصب به صراط ؟ .
قلنا : أول ما في ذلك أنك إذا قدرت الفعل قبل صراط لم تكن مبتدئا به من حيث المعنى ، ثم إن فعلت ذلك كان الوقف تاما ; لأن كل واحد من طرفيه يستغني حينئذ عن الآخر ، والنحويون يكرهون الوقف الناقص في التنزيل مع إمكان التام ، فإن طال الكلام ولم يوجد فيه وقف تام حسن الأخذ بالناقص ; كقوله تعالى :
قل أوحي ( الجن : 1 ) إلى قوله :
فلا تدعوا مع الله أحدا ( الجن : 18 ) إن كسرت بعده إن ، فإن فتحتها فإلى قوله :
كادوا يكونون عليه لبدا ( الجن : 19 ) ; لأن الأوجه في أن في الآية أن تكون محمولة على أوحي ، وهذا أقرب من جعل الوقف التام (
حطبا ) ( الجن : 5 ) ، وحمل :
وأن لو استقاموا ( الجن : 16 ) على القسم ، فاضطر في
وأن المساجد لله ( الجن : 18 ) إلى أن جعل التقدير :
فلا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله .
[ ص: 515 ] فإن قيل : هذا هو الوجه في فتح أن في الجملة التي بعد قوله :
فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ( الجن : 1 و 2 ) فلم لا يلزم من جعل الوقف التام ( حطبا ) ( الجن : 15 ) ألا يقف قبله على هذه الجمل في كسر إن في أول كل واحدة منها ؟ .
قلنا : لأن هذه الجمل داخلة في القول ، وما يكون داخلا في القول لا يتم الوقف دونه ، كما أن المعطوف إذا تبع المعطوف عليه في إعرابه الظاهر والمقدر لا يتقدمه الوقف تاما .
فإن قيل : فهل يجوز الفصل بالمكسورات بين
أنه استمع ، وبين
وأنه لما قام عبد الله ( الجن : 19 ) فيمن فتحهما ، وقد عطف بالثانية على الأولى .
قيل : أما عندنا فليس ذلك بفصل ; لأن ما بعد
إنا سمعنا من المكسورات معطوف عليها ، وهي داخلة في القول ، والقول أعني فقالوا معطوف على ( استمع ) ، و ( استمع ) من صلة " أن " الأولى المفتوحة ، فالمكسورات تكون في خبر المفتوحة الأولى ، فيعطف عليها الثانية بلا فصل بينها ، والثانية عندنا هي المخففة في قوله تعالى :
وأن لو استقاموا على الطريقة ( الجن : 16 ) ثم الثالثة هي التي في قوله :
وأن المساجد لله .
ثم إن فتحت التي في قوله تعالى :
وأنه لما قام عبد الله ( الجن : 19 ) رابعة تابعة ; فإن فتحت التي بعد سمعنا كانت هي واللواتي بعدها إلى قوله : ( حطبا ) ( الجن : 15 ) داخلة في القول حملا على المعنى ، وقد يجوز أن تكون هي الثانية ثم تعد بعدها على النسق .
ونحو قوله تعالى :
إذا الشمس كورت ( التكوير : 1 ) إلى قوله :
علمت نفس ما أحضرت ( التكوير : 14 ) ، وعلى هذا القياس .
الثالث :
الأنقص ; ومثل له بقراءة بعضهم :
وإن كلا لما ليوفينهم ( هود : 111 ) ،
[ ص: 516 ] وقراءة بعضهم : لكن هو الله ( الكهف : 38 ) ، والفرق بينهما أن التام قد يجوز أن يقع فيه بين القولين مهلة وتراخ في اللفظ ، والناقص لا يجوز أن يقع فيه بين جزأي القول إلا قليل لبث ، والذي دونهما لا لبث فيه ولا مهلة أصلا .
ثم إن كلا من التام والناقص ينقسم في ذاته أقساما ، فالتام أتمه ما لا يتعلق اللاحق فيه من القولين بالسابق معنى ، كما لا يتعلق به لفظا ، وذلك نحو قوله تعالى :
وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور لله ملك السماوات والأرض ( الشورى : 48 و 49 ) ، وشأن ما يتعلق فيه أحد القولين بالآخر معنى وإن كان لا يتعلق به لفظا ، وذلك كقوله :
ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ( يس : 30 ) ، وتعلق الثاني فيه بالأول تعلق الحال بذي الحال معنى .
ونحو قوله تعالى :
إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ( الأنبياء : 52 ) إلى قوله :
فجعلهم جذاذا ( الأنبياء : 58 ) إلى قوله :
بل فعله كبيرهم هذا ( الأنبياء : 63 ) فهذه الحال قد عطف بعضها على بعض في المعنى ، وظاهر كل واحد منها الاستئناف في اللفظ .
ونحو قوله تعالى :
فهم به مستمسكون بل قالوا ( الزخرف : 21 و 22 ) ، وأنت تعلم أن ( بل ) لا يبتدأ بها .
ونحو قوله :
وكنتم أزواجا ثلاثة ( الواقعة : 7 ) فإن ما بعده منقطع عنه لفظا إذ لا تعلق له من جهة اللفظ ، لكنه متعلق به معنى ، وتعلقه قريب من تعلق الصفة بالموصوف إلى قوله :
وتصلية جحيم ( الواقعة : 94 ) .
ونحو قوله :
ياأيها الناس اتقوا ربكم ( الحج : 1 ) ; فإن الوقف عليه تام ، ولكنه ليس بالأتم ; لأن ما بعده وهو قوله تعالى :
إن زلزلة الساعة شيء عظيم كالعلة لما قبلها ، فهو متعلق به معنى ، وإن كان لا تعلق له من جهة اللفظ ، فقس على هذا ما سواه ، فإنه أكثر أنواع
[ ص: 517 ] الوقوف استعمالا ، وليس إذا حاولت بيان قصة وجب عليك ألا تقف إلا في آخرها ; ليكون الوقف القول على الأتم ; ومن ثم أتى به من جعل الوقف على عليكم من قوله تعالى :
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم ( النساء : 24 ) غير تام .