( السادس ) : اعلم أن من
المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره وإيقاع الشيء فيها بما يشاكله ، فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى المذكور أولا وإلا خرج بعض الكلام عن بعض .
وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك ، لكن
[ ص: 170 ] منه ما يظهر ، ومنه ما يستخرج بالتأمل للبيب .
وهي منحصرة في أربعة أشياء : التمكين والتوشيح والإيغال والتصدير .
والفرق بينها أنه أن كان تقدم لفظها بعينه في أول الآية سمي تصديرا ، وإن كان في أثناء الصدر سمي توشيحا ، وإن أفادت معنى زائدا بعد تمام معنى الكلام سمي إيغالا ، وربما اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما صدره يدل على عجزه ، والفرق بينهما أن دلالة التصدير لفظية ودلالة التوشيح معنوية .
الأول :
التمكين
وهو أن تمهد قبلها تمهيدا تأتي به الفاصلة ممكنة في مكانها ، مستقرة في قرارها ، مطمئنة في موضعها ، غير نافذة ولا قلقة ، متعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما بحيث لو طرحت اختل المعنى واضطرب الفهم .
وهذا الباب يطلعك على سر عظيم من أسرار القرآن ، فاشدد يديك به .
ومن أمثلته قوله تعالى : (
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) ( الأحزاب : 25 ) فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله : (
وكفى الله المؤمنين القتال ) لأوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم ، ولم يبلغوا ما أرادوا ، وأن ذلك أمر اتفاقي ، فأخبر سبحانه في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة ليعلم المؤمنين ويزيدهم يقينا وإيمانا على أنه الغالب الممتنع ، وأن حزبه كذلك ، وأن تلك الريح التي هبت ليست اتفاقا ، بل هي من إرساله سبحانه على أعدائه كعادته ، وأنه ينوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيمانا وينصرهم مرة بالقتال كيوم
بدر وتارة بالريح كيوم
الأحزاب ، وتارة بالرعب
كبني النضير ، وطورا ينصر عليهم كيوم
أحد تعريفا لهم أن الكثرة لا تغني شيئا ، وأن النصر من عنده كيوم
حنين .
[ ص: 171 ] ومنه قوله تعالى : (
أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) ( السجدة : 26 - 27 ) فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية (
أولم يهد لهم )
ولم يقل : أولم يروا ، وقال بعد ذكر الموعظة : ( أفلا يسمعون ) ؛ ولأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع ، أو أخبار القرون وهو مما يسمع ، وكيف قال في صدر الآية التي في موعظتها مرئية : أولم يروا ، وقال بعدها : (
أفلا يبصرون ) ؛ لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئي .
ومنه قوله تعالى : (
قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ) ( هود : 87 ) ، فإنه لما تقدم ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيدا تاما لذكر الحلم والرشد ; لأن الحلم الذي يصح به التكليف
والرشد حسن التصرف في الأموال فكان آخر الآية مناسبا لأولها مناسبة معنوية ، ويسميه بعضهم ملاءمة .
ومنه قوله تعالى : (
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ( الأنعام : 103 ) ، فإنه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له عطف على ذلك قوله : (
وهو اللطيف ) خطابا للسامع بما يفهم ; إذ العادة أن كل لطيف لا تدركه الأبصار ، ألا ترى أن حاسة البصر إنما تدرك اللون من كل متلون والكون من كل متكون ، فإدراكها إنما هو للمركبات دون المفردات ، وكذلك لما قال : (
وهو يدرك الأبصار ) عطف عليه قوله الخبير مخصصا لذاته سبحانه بصفة الكمال ; لأنه ليس كل من أدرك شيئا كان خبيرا بذلك الشيء ؛ لأن المدرك للشيء قد يدركه ليخبره ، ولما كان الأمر أخبر سبحانه وتعالى أنه يدرك كل شيء مع الخبرة به ، وإنما خص الإبصار بإدراكه ليزيد في الكلام
[ ص: 172 ] ضربا من المحاسن يسمى التعطف ، ولو كان الكلام : لا تبصره الأبصار وهو يبصر الأبصار لم تكن لفظتا : ( اللطيف الخبير ) مناسبتين لما قبلهما .
ومنه قوله تعالى : (
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ) إلى قوله : (
لرءوف رحيم ) ( الحج : 63 - 65 ) إنما فصل الأولى بـ (
لطيف خبير ) ؛ لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وإخراج النبات من الأرض ، ولأنه خبير بنفعهم ، وإنما فصل الثانية بـ ( غني حميد ) لأنه قال : (
له ما في السماوات وما في الأرض ) أي لا لحاجة ، بل هو غني عنهما جواد بهما ; لأنه ليس غني نافعا غناه إلا إذا جاد به ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه واستحق عليه الحمد ، فذكر ( الحميد ) على أنه الغني النافع بغناه خلقه ؛ وإنما فصل الثالثة بـ ( رءوف رحيم ) لأنه لما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم وإجراء الفلك في البحر لهم وتسييرهم في ذلك الهول العظيم ، وجعله السماء فوقهم ، وإمساكه إياها عن الوقوع حسن ختامه بالرأفة والرحمة .
ونظير هذه الثلاث فواصل مع اختلافها قوله تعالى في سورة الأنعام : (
وهو الذي جعل لكم النجوم ) [ 97 ] الآيات .
وقوله تعالى : (
له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ) ( الحج : 64 ) فقال : (
الغني الحميد ) لينبه على أن ما له ليس لحاجة بل هو غني عنه ، جواد به ، وإذا جاد به حمده المنعم عليه ; إذ ( حميد ) كثير المحاميد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل وسائر النقائض ، فيكون " غنيا " مفسرا بالغنى المطلق لا يحتاج فيه لتقدير " غني عنه " .
ومنه قوله تعالى : (
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون ) ( القصص : 71 ) لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة ، وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة صار الليل كأنه سرمد
[ ص: 173 ] بهذا التقدير وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر ، لا سيما وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره ، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة فصار النهار كأنه معدوم ; إذ نسب وجوده إلى غير موجد ، والليل كأنه لا موجود سواه ؛ إذ جعل كونه سرمدا منسوبا إليه سبحانه ، فاقتضت البلاغة أن يقول : (
أفلا تسمعون ) لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع ولا يصلح للإبصار .
وكذلك قال في الآية التي تليها : (
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ) ( القصص : 72 ) ؛ لأنه لما أضاف جعل النهار سرمدا إليه صار النهار كأنه سرمد ، وهو ظرف مضيء تنور فيه الأبصار ، وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة ، فصار الليل كأنه معدوم إذ نسب وجوده إلى غير موجد ، والنهار كأنه لا موجود سواه ؛ إذ جعل وجوده سرمدا منسوبا إليه ، فاقتضت البلاغة أن يقول : (
أفلا تبصرون ) ؛ إذ الظرف مضيء صالح للإبصار ، وهذا من دقيق المناسبة المعنوية .
ومنه قوله تعالى في أول سورة الجاثية : (
إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ) ( الجاثية : 3 - 5 ) .
فإن البلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه ذكر العالم بجملته حيث قال : (
السماوات والأرض ) ، ومعرفة الصانع من الآيات الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم ، وإن دل على وجود صانع مختار لدلالتها على صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته ، فلا بد أولا من التصديق بذاته حتى تكون هذه الآيات دالة على صفاته لتقدم الموصوف وجودا واعتقادا على الصفات .
وكذلك قوله في الآية الثانية : (
لقوم يوقنون ) فإن سر الإنسان وتدبر خلقه الحيواني أقرب إليه من الأول ، وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول . وكذلك معرفة جزئيات العالم ; من
[ ص: 174 ] اختلاف الليل والنهار ، وإنزال الرزق من السماء ، وإحياء الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ورصانته لنعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي التي هي أجرامه وعوارض عنه ، ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا ، فقد قام البرهان على أن للعالم الكلي صانعا مختارا ، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة : (
لقوم يعقلون ) ، وإن احتيج إلى العقل في الجميع إلا أن ذكره هاهنا أنسب بالمعنى الأول إذ بعض من يعتقد صانع العالم ربما قال : إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا ، فلا بد إذا من التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل .
ومنه قوله تعالى حكاية عن
لقمان : (
يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ) ( لقمان : 16 ) .
ومنه قوله تعالى : (
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ) ( البقرة : 76 ) والمناسبة فيه قوية ؛ لأن من دل عدوه على عورة نفسه أو أعطاه سلاحه ليقتله به فهو جدير بأن يكون مقلوب العقل ، فلهذا ختمها بقوله : (
أفلا تعقلون ) ، [ والمناسبة فيه قوية ] .
وهذه الفاصلة لا تقع إلا في سياق إنكار فعل غير مناسب في العقل ، نحو قوله تعالى : (
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) ( البقرة : 44 ) ؛ لأن فاعل غير المناسب ليس بعاقل .
وقوله تعالى : (
قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ) ( سبأ : 26 ) ختم بصفة العلم إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم ، وما نحن عليه من الحق وما أنتم عليه من الباطل ، وإذا كان عالما بذلك فنسأله القضاء علينا وعليكم بما يعلم منا ومنكم .