فصل
وقد
تجتمع فواصل في موضع واحد ، ويخالف بينها وذلك في مواضع :
[ ص: 175 ] منها في أوائل النحل ، وذلك أنه سبحانه بدأ فيها بذكر الأفلاك فقال : (
خلق السماوات والأرض بالحق ) ( النحل : 3 ) ، ثم ذكر خلق الإنسان فقال : (
من نطفة ) ( النحل : 4 ) ، وأشار إلى عجائب الحيوان فقال : والأنعام ( النحل : 5 ) ثم عجائب النبات فقال : (
هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) ( النحل : 10 - 11 ) ، فجعل مقطع هذه الآية التفكر ; لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار .
وفيه جواب عن سؤال مقدر ؛ وهو أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر ؟ ولما كان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال لا جرم كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقيا ، إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال من وجهين :
أحدهما : أن
تغيرات العالم الأسفل مربوطة بأحوال حركات الأفلاك ، فتلك الحركات حيث حصلت ، فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل ، وإن كان من الخالق الحكيم فذلك الإقرار بوجود الإله تعالى ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( النحل : 12 ) فجعل مقطع هذه الآية العقل ، والتقدير كأنه قيل : إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل ، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك ، وهو الإله القادر المختار .
والثاني : أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة ، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة ، والآخر في غاية السواد ، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار فعلمنا أن
[ ص: 176 ] المؤثر قادر مختار ، وهذا هو المراد من قوله : (
وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ) ( النحل : 13 ) كأنه قيل : قد ذكرنا ما يرسخ في عقلك أن الموجب بالذات والطبع لا يختلف تأثيره ، فإذا نظرت إلى حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع بل الفاعل المختار فلهذا جعل مقطع الآية التذكر .