تنبيه
من بديع هذا النوع
اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة ، وذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) ( الآية : 34 ) ثم قال في سورة النحل : (
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ) ( 18 ) .
قال
القاضي ناصر الدين بن المنير في " تفسيره الكبير " : كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها ، فحصل لك عند أخذها وصفان : كونك ظلوما ، وكونك كفارا ، ولي عند إعطائها وصفان ، وهما : أني غفور رحيم ، أقابل ظلمك بغفراني ، وكفرك برحمتي ، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء . انتهى .
وهو حسن ، لكن بقي سؤال آخر ؛ وهو :
ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف النعيم ، وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه ؟ والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم في وصف الإنسان وما جبل عليه ، فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه . وأما آية النحل فسيقت في
[ ص: 177 ] وصف الله تعالى وإثبات ألوهيته وتحقيق صفاته ، فناسب ذكر وصفه سبحانه ، فتأمل هذه التراكيب ما أرقاها في درجة البلاغة !
ونظيره قوله تعالى في سورة الجاثية : (
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون ) [ 15 ] وفي فصلت : (
من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) [ 46 ] .
وحكمة فاصلة الأولى أن قبلها : (
قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون ) ( الجاثية : 14 ) فناسب الختام بفاصلة البعث ; لأن قبله وصفهم بإنكاره ، وأما الأخرى فالختام بها مناسب ، أي لأنه لا يضيع عملا صالحا ، ولا يزيد على من عمل شيئا .
ونظيره قوله في سورة النساء : (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ( الآية : 48 ) ختم الآية مرة بقوله : (
فقد افترى إثما عظيما ) ( الآية : 48 ) ، ومرة بقوله : (
ضلالا بعيدا ) ( الآية : 116 ) لأن الأول نزل في اليهود ، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه ، والثاني نزل في الكفار ، ولم يكن لهم كتاب ، وكان ضلالهم أشد .
وقوله في المائدة : (
ومن لم يحكم بما أنزل الله ) ( الآيات : 44 - 45 - 46 ) ، فذكرها ثلاث مرات ، وختم الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين ، فقيل : لأن الأولى نزلت في أحكام المسلمين ، والثانية نزلت في أحكام اليهود ، والثالثة نزلت في أحكام النصارى .
وقيل : (
ومن لم يحكم بما أنزل الله ) إنكارا له فهو كافر ، ومن لم يحكم بالحق مع اعتقاد الحق ، وحكم بضده فهو ظالم ، ومن لم يحكم بالحق جهلا وحكم بضده فهو فاسق .
وقيل : الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد ، وهو الكفر ، عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار ، وقيل غير ذلك .