التنبيه الثاني
النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب
الأول :
ما نسخ تلاوته وبقي حكمه فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول ، كما روي أنه كان يقال في سورة النور : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله ) ، ولهذا قال
عمر : لولا أن يقول الناس زاد
عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في صحيحه معلقا .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان في صحيحه عن
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018595كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة ، فكان فيها : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ) .
وفي هذا سؤالان : الأول : ما الفائدة في ذكر الشيخ والشيخة ؟ وهلا قال : المحصن والمحصنة ؟ .
وأجاب
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب في " أماليه " عن هذا بأنه من البديع في المبالغة ; وهو أن يعبر عن الجنس في باب الذم بالأنقص فالأنقص ، وفي باب المدح بالأكثر والأعلى ، فيقال : لعن الله السارق يسرق ربع دينار فتقطع يده ، والمراد : يسرق ربع دينار فصاعدا إلى أعلى ما يسرق . وقد يبالغ فيه ، فيذكر ما لا تقطع به ; كما جاء في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018596لعن الله [ ص: 167 ] السارق يسرق البيضة فتقطع يده وقد علم أنه لا تقطع في البيضة ، وتأويل من أوله ببيضة الحرب تأباه الفصاحة .
الثاني : أن ظاهر قوله : ( لولا أن يقول الناس . . . ) إلخ أن كتابتها جائزة ، وإنما منعه قول الناس ، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه ، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة ، لأن هذا شأن المكتوب ، وقد يقال : لو كانت التلاوة باقية لبادر
عمر رضي الله عنه ولم يعرج على مقال الناس ; لأن مقال الناس لا يصلح مانعا .
وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة ، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد ، والقرآن لا يثبت به ، وإن ثبت الحكم ، ومن هنا أنكر ابن ظفر في " الينبوع " عد هذا مما نسخ تلاوته ، قال : لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن . قال : وإنما هذا من المنسأ لا النسخ ، وهما يلتبسان ، والفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه ويثبت أيضا ، وكذا قاله غيره في القراءات الشاذة ، كإيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين ونحوه أنها كانت قرآنا فنسخت تلاوتها : لكن في العمل بها الخلاف المشهور في القراءة الشاذة .
[ ص: 168 ] ومنهم من أجاب عن ذلك بأن هذا كان مستفيضا عندهم ، وأنه كان متلوا من القرآن ، فأثبتنا الحكم بالاستفاضة ، وتلاوته غير ثابتة بالاستفاضة . ومن هذا الضرب ما رواه
مسلم في صحيحه عن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري : إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة ، فأنسيتها غير أني أحفظ منها : ( لو كان لابن
آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن
آدم إلا التراب ) ; وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ) .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=12915الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه " الناسخ والمنسوخ " مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه ; سورتا القنوت في الوتر ، قال : ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب ، وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما ، وتسمى سورتي الخلع والحفد .
هنا سؤال ، وهو أن يقال :
ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم ؟ وهلا تثبت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها ؟ وأجاب صاحب " الفنون " فقال : إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير
[ ص: 169 ] استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شيء ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام أدنى طرق الوحي .
الضرب الثاني :
ما نسخ حكمه وبقي تلاوته ، وهو في ثلاث وستين سورة ، كقوله تعالى :
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا ( البقرة : 234 ) الآية ، فكانت المرأة إذا مات زوجها لزمت التربص بعد انقضاء العدة حولا كاملا ، ونفقتها في مال الزوج ، ولا ميراث لها ، وهذا معنى قوله :
متاعا إلى الحول غير إخراج ( البقرة : 240 ) الآية ، فنسخ الله ذلك بقوله :
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ( البقرة : 234 ) ، وهذا الناسخ مقدم في النظم على المنسوخ .
قال
القاضي أبو المعالي : وليس في القرآن ناسخ تقدم على المنسوخ ، إلا في موضعين : هذا أحدهما ، والثاني قوله :
ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ( الأحزاب : 50 ) الآية ، فإنها ناسخة لقوله :
لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ( الأحزاب : 52 ) .
قلت : وذكر بعضهم موضعا آخر ، وهو قوله تعالى :
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ( البقرة : 142 ) هي متقدمة في التلاوة ، ولكنها منسوخة بقوله تعالى :
قد نرى تقلب وجهك في السماء ( البقرة : 144 ) .
وقيل :
في تقديم الناسخة فائدة ، وهي أن تعتقد حكم المنسوخة قبل العلم بنسخها . ويجيء موضع رابع : وهو آية الحشر في قوله تعالى :
ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ( الآية : 7 ) فإنه لم يذكر فيها شيء للغانمين ، ورأى
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنها منسوخة بآية الأنفال وهي قوله :
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ( الآية : 41 ) .
واعلم أن هذا الضرب ينقسم إلى ما يحرم العمل به ولا يمتنع كقوله :
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ( الأنفال : 65 ) ثم نسخ الوجوب .
[ ص: 170 ] ومنه قوله :
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ( البقرة : 190 ) قيل : منسوخ بقوله تعالى :
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ( البقرة : 194 ) .
وقوله :
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ( الأحقاف : 9 ) نسختها آيات القيامة والكتاب والحساب .
وهنا سؤال ، وهو أن يسأل :
ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة ؟
والجواب : من وجهين : أحدهما : أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه ، والعمل به ، فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه ، فتركت التلاوة لهذه الحكمة .
وثانيهما : أن النسخ غالبا يكون للتخفيف ، فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة ، وأما حكمة النسخ قبل العمل ، كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر .
الثالث : نسخهما جميعا ، فلا تجوز قراءته ولا العمل به ، كآية التحريم بعشر رضعات فنسخن بخمس ، قالت
عائشة : كان مما أنزل عشر رضعات معلومات ، فنسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن . رواه
مسلم .
وقد تكلموا في قولها : ( وهي مما يقرأ ) فإن ظاهره بقاء التلاوة ; وليس كذلك ، فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة ، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتوفي وبعض الناس يقرؤها .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=110أبو موسى الأشعري : نزلت ثم رفعت .
وجعل
الواحدي من هذا ما روي عن
أبي بكر رضي الله عنه قال : كنا نقرأ ( لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر ) ، وفيه نظر .
[ ص: 171 ] وحكى
القاضي أبو بكر في " الانتصار " عن قوم إنكار هذا القسم ، لأن الأخبار ، فيه أخبار آحاد ،
ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها .
وقال
أبو بكر الرازي : نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف ، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله :
إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ( الأعلى : 18 ، 19 ) ولا يعرف اليوم منها شيء ، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا توفي لا يكون متلوا في القرآن ; أو يموت وهو متلو موجود في الرسم ، ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم ، وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .