تنبيه
حق الفاصلة في هذا القسم
تمكين المعنى المسوق إليه كما بينا ، ومنه قوله تعالى : (
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) ( البقرة : 129 ) ، ووجه مناسبته أن بعث الرسول تولية ، والتولية لا تكون إلا من عزيز غالب على ما يريد ، وتعليم الرسول الحكمة لقومه إنما يكون مستندا إلى حكمة مرسله ; لأن الرسول واسطة بين المرسل والمرسل إليه ، فلا بد وأن يكون حكيما ، فلا جرم كان اقترانهما مناسبا .
وقوله تعالى : (
فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم )
[ ص: 179 ] ( البقرة : 182 ) وجه المناسبة في الختم محمول على قول
مجاهد : إن من حضر الموصي فرأى منه جنفا على الورثة في وصيته مع فقرهم ، فوعظه في ذلك وأصلح بينه وبينهم حتى رضوا ، فلا إثم عليه ، وهو غفور للموصي إذا ارتدع بقول من وعظه ، فرجع عما هم به ، وغفرانه لهذا برحمته لا خفاء به ، والإثم المرفوع عن القائل يحتمل أن يكون إثم التبديل السابق في الآية قبلها في قوله تعالى : (
فمن بدله بعدما سمعه ) ( البقرة : 181 ) يعني من الموصي ; أي لا يكون هذا المبدل داخلا تحت وعيد من بدل على العموم ; لأن تبديل هذا تضمن مصلحة راجحة ، فلا يكون كغيره ، وقد أشكل على ذلك مواضع منها قوله تعالى : (
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) ( المائدة : 118 ) ، فإن قوله : (
وإن تغفر لهم ) يوهم أن الفاصلة " الغفور الرحيم " ، وكذا نقلت عن مصحف
أبي - رضي الله عنه - وبها قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=13281ابن شنبوذ ، ولكن إذا أنعم النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة ; لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد أن يرد عليه حكمه ، فهو العزيز ; لأن
العزيز في صفات الله هو الغالب ، من قولهم : عزه يعزه عزا إذا غلبه ، ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا ; لأن الحكيم من يضع الشيء في محله ، فالله تعالى كذلك ، إلا أنه قد يخفي وجه الحكمة في بعض أفعاله ، فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة ، فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن ، أي : وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك ، والحكمة فيما فعلته . وقيل : لا يجوز " الغفور الرحيم " ؛ لأن الله تعالى قطع لهم بالعذاب في قوله تعالى : (
إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( النساء : 48 ) ، وقيل : لأنه مقام تبر
[ ص: 180 ] فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم وذكر صفة العدل في ذلك بأنه العزيز الغالب . وقوله : الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، فلا يعترض عليه إن عفا عمن يستحق العقوبة .
وقيل : ليس هو على مسألة الغفران ، وإنما هو على معنى تسليم الأمر إلى من هو أملك لهم ، ولو قيل : " فإنك أنت الغفور الرحيم " لأوهم الدعاء بالمغفرة ، ولا يسوغ
الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه لا لنبي ولا لغيره . وأما قوله : (
فإنهم عبادك ) وهم عباده ، عذبهم أو لم يعذبهم ، فلأن المعنى : إن تعذبهم ، تعذب من العادة أن تحكم عليه ، وذكر العبودية التي هي سبب القدرة كقول
رؤبة :
يا رب إن أخطأت أو نسيت فأنت لا تنسى ولا تموت .
والله لا يضل ولا ينسى ولا يموت ، أخطأ
رؤبة أو أصاب ، فكأنه قال : إن أخطأت تجاوزت لضعفي وقوتك ، ونقصي وكمالك .
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة " براءة " : (
أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) ( التوبة : 71 ) ، والجواب ما ذكرناه .
ومنه قوله تعالى في سورة الممتحنة : (
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ) ( الآية : 5 ) .
ومثله في سورة غافر في قول السادة الملائكة : (
ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم ) ( الآية : 8 ) .
ومنه قوله تعالى : (
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) ( النور : 9 و 10 ) فإن الذي يظهر في أول النظر أن الفاصلة " تواب رحيم " ؛ لأن الرحمة مناسبة للتوبة ، وخصوصا من هذا الذنب العظيم ، ولكن
[ ص: 181 ] هاهنا معنى دقيق من أجله قال : حكيم ؛ وهو أن ينبه على فائدة مشروعية اللعان وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة ، وذلك من عظيم الحكم ، فلهذا كان " حكيم " بليغا في هذا المقام دون " رحيم " .
ومن خفي هذا الضرب قوله تعالى في سورة البقرة : (
خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم ) ( الآية : 29 ) .
وقوله في آل عمران : (
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ) ( الآية : 29 ) فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة ، وفي آية آل عمران الختم بالعلم ، لكن إذا أنعم النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة في الآيتين ، وكذلك
قوله تعالى : ( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) ( الأنعام : 147 ) مع أن ظاهر الخطاب " ذو عقوبة شديدة " ؛ وإنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته ، وذلك أبلغ في التهديد ، ومعناه : لا تغتروا بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته ، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم .
وقريب منه : (
رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا ) ( النبأ : 37 ) .
وأما قوله تعالى : (
ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) ( الأنفال : 49 ) ، فمناسبة الجزاء للشرط أنه لما أقدم المؤمنون ، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر ، على قتال المشركين ، وهم زهاء ألف ، متوكلين على الله تعالى ، وقال المنافقون : (
غر هؤلاء دينهم ) ( الأنفال : 49 ) حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا أو أكثرهم قال الله تعالى ردا على المنافقين ، وتثبيتا للمؤمنين : (
ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ) ( الأنفال : 49 ) في جميع أفعاله .
وأما قوله تعالى : (
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا )
[ ص: 182 ] ( الإسراء : 44 )
فإن قيل ما وجه الختام بالحلم والمغفرة عقيب تسابيح الأشياء وتنزيهها ؟ أجاب صاحب " الفنون " بثلاثة أوجه :
أحدها : إن فسرنا التسبيح على ما درج في الأشياء من العبر ، وأنها مسبحات بمعنى مودعات من دلائل العبر ودقائق الإنعامات والحكم ما يوجب تسبيح المعتبر المتأمل ، فكأنه سبحانه يقول إنه كان من كبير إغفالكم النظر في دلائل العبر مع امتلاء الأشياء بذلك . وموضع العتب قوله تعالى : (
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) ( يوسف : 105 ) ، كذلك موضع المعتبة قوله : (
ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ( الإسراء : 44 ) ، وقد كان ينبغي أن يعرفوا بالتأمل ما يوجب القربة لله ، مما أودع مخلوقاته بما يوجب تنزيهه ، فهذا موضع حلم وغفران عما جرى في ذلك من الإفراط والإهمال .
الثاني : إن جعلنا
التسبيح حقيقة في الحيوانات بلغاتها فمعناه : الأشياء كلها تسبحه وتحمده ، ولا عصيان في حقها ، وأنتم تعصون ، فالحلم والغفران للتقدير في الآية ، وهو العصيان .
وفي الحديث :
لولا بهائم رتع ، وشيوخ ركع ، وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا .
الثالث : أنه سبحانه قال في أولها : (
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده )
[ ص: 183 ] ( الإسراء : 44 ) أي أنه كان لتسابيح المسبحين حليما عن تفريطهم ، غفورا لذنوبهم ، ألا تراه قال في موضع آخر : (
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم ) ( الشورى : 5 ) ، وكأنها اشتملت على ثلاثة معان : إما العفو عن ترك البحث المؤدي إلى الفهم ، لما في الأشياء من العبر ، وأنتم على العصيان . أو يريد بها الأشياء كلها تسبحه ، ومنها ما يعصيه ويخالفه ، فيغفر عصيانهم بتسابيحهم .