فصل في
تنزيه الله القرآن عن أن يكون شعرا .
مع أن الموزون في الكلام رتبته فوق رتبة المنظوم غير الموزون ; فإن كل موزون منظوم ، ولا عكس ، وقال تعالى :
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ( يس : 69 ) فأعلم سبحانه وتعالى أنه نزه القرآن عن نظم الشعر والوزن ; لأن القرآن مجمع الحق ، ومنبع الصدق ، وقصارى أمر الشاعر التحصيل بتصوير الباطل في صورة الحق ، والإفراط في الإطراء ، والمبالغة في الذم والإيذاء دون إظهار الحق ، وإثبات الصدق منه كان بالعرض ، ولهذا قال تعالى :
وما هو بقول شاعر ( الحاقة : 41 ) أي كاذب ولم يعن أنه ليس بشعر ; فإن وزن الشعر أظهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفى عنه ، ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى المنطقيون القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية .
فإن قيل : فقد وجد في القرآن ما وافق شعرا موزونا ، إما بيت تام ، أو أبيات ، أو مصراع ، كقول القائل :
وقلت لما حاولوا سلوتي هيهات هيهات لما توعدون
وقوله :
وجفان كالجواب وقدور راسيات ( سبأ : 13 ) قالوا : هذا من الرمل .
وكقوله :
ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ( فاطر : 18 ) قالوا : هو من الخفيف .
[ ص: 243 ] وقوله :
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب قالوا : هو من المتقارب ، أي بإسقاط ( مخرجا ) .
وقوله :
ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا .
ويشبعون حركة الميم فيبقى من الرجز ، وحكي أن
أبا نواس ضمنه فقال :
وفتية في مجلس وجوههم ريحانهم قد عدموا التثقيلا
( دانية عليهمو ظلالها وذللت قطوفها تذليلا )
وقوله تعالى :
ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين قالوا : هو من الوافر .
وقوله تعالى :
أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم قالوا : هو من الخفيف .
وقوله تعالى :
والعاديات ضبحا فالموريات قدحا ( العاديات : 1 و 2 ) ونحو قوله :
والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا ( الذاريات : 1 - 3 ) وهو عندهم شعر من بحر البسيط .
وقوله تعالى :
ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ( ق : 40 ) .
وقوله تعالى :
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( آل عمران : 92 ) .
وقوله تعالى :
فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ( الكهف : 22 ) .
وقوله تعالى :
لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ( هود : 43 ) .
وقوله تعالى :
تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) .
[ ص: 244 ] وقوله تعالى :
نصر من الله وفتح قريب ( الصف : 13 ) وقوله تعالى :
إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( الأنفال : 38 ) وقوله تعالى :
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ( القصص : 76 ) .
ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ :
ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( الحج : 1 ) قال : كسرت ; إنما قال :
يا أيها الناس اتقوا ربكم زلزلة الساعة شيء عظيم
فقيل له : هذا القرآن وليس بشعر .
فالجواب ; قال
القاضي أبو بكر : إن الفصحاء منهم لما أورد عليهم القرآن لو اعتقدوه شعرا لبادروا إلى معارضته ; لأن الشعر منقاد إليهم ، فلما لم يعمدوا إلى ذلك دل على أنهم لم يعتقدوا فيه ذلك ، فمن استدرك فيه شعرا زعم أنه خفي على أولئك النفر ، وهم ملوك الكلام مع شدة حاجتهم إلى الطعن في القرآن ، والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه ، فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن ، فهو بالجهل حقيق .
وحينئذ فالذي أجاب به العلماء عن هذا أن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا ،
وأقل الشعر بيتان فصاعدا ، وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام .
وقالوا أيضا : إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف وزنهما وقافيتهما فليس بشعر أصلا .
ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا .
[ ص: 245 ] وكذا ما يقاربه في قلة الأجزاء ، وعلى هذا يسقط السؤال .
ثم نقول : إن الشعر إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل ، وما يتفق من كل واحد ، فليس بشعر ; فلا يسمى صاحبه شاعرا ، وإلا لكان الناس كلهم شعراء ; لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه .
وقيل :
أقل ما يكون من الرجز شعرا أربعة أبيات ، وليس ذلك في القرآن بحال .
قال
القاضي : وهذه الطريق التي سلكوها في الجواب معتمدة ، أو أكثرها . ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان .