صفحة جزء
الرابع : التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع . وهذا هو الذي دعا به النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس في قوله : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل .

وروى البخاري - رحمه الله - في كتاب الجهاد في صحيحه عن علي : هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة ، أو فهم يؤتاه الرجل .

[ ص: 303 ] وعلى هذا قال بعض أهل الذوق : للقرآن نزول وتنزل ، فالنزول قد مضى ، والتنزل باق إلى قيام الساعة .

ومن هاهنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل واحد برأيه على منتهى نظره في المقتضى .

ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله - تعالى - : ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء : 36 ) وقوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( البقرة : 169 ) وقوله : لتبين للناس ما نزل إليهم ( النحل : 44 ) فأضاف البيان إليهم .

وعليه حملوا قوله - صلى الله عليه وسلم - : من قال في القرآن بغير علم ، فليتبوأ مقعده من النار ، رواه البيهقي من طرق ، من حديث ابن عباس . وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ، وقال : غريب ، من حديث ابن جندب .

وقال البيهقي في شعب الإيمان : هذا إن صح ، فإنما أراد - والله أعلم - الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه ، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل ، وكذلك لا يجوز [ ص: 304 ] تفسير القرآن به . وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز ، وهذا معنى قول الصديق : أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي .

وقال في " المدخل " : في هذا الحديث نظر ، وإن صح فإنما أراد - والله أعلم - : فقد أخطأ الطريق ، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة ، وفي معرفة ناسخه ومنسوخه ، وسبب نزوله ، وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة ؛ الذين شاهدوا تنزيله ، وأدوا إلينا من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكون تبيانا لكتاب الله قال الله - تعالى - : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( النحل : 44 ) .

فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ، ففيه كفاية عن ذكره من بعده ، وما لم يرد عنه بيان ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد .

قال : وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه ، فتكون موافقته للصواب - وإن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة .

وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في " نكته " : قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره ، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده . ولو صحبتها الشواهد ، ولم يعارض شواهدها نص صريح ، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه ، كما قال - تعالى - : لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( النساء : 83 ) .

ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء إلا بالاستنباط ، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا - وإن صح الحديث - فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه [ ص: 305 ] وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق ، وإصابته اتفاق ، إذ الغرض أنه مجرد رأي لا شاهد له ، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : القرآن ذلول ذو وجوه محتملة ، فاحملوه على أحسن وجوهه .

وقوله : ذلول يحتمل وجهين : أحدهما أنه مطيع لحامليه ، ينطق بألسنتهم . الثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين .

وقوله : " ذو وجوه " يحتمل معنيين : أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل ، والثاني : أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي ، والترغيب والترهيب ، والتحليل والتحريم .

وقوله : " فاحملوه على أحسن وجوهه " يحتمل أيضا وجهين : أحدهما : الحمل على أحسن معانيه . والثاني : أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص ، والعفو دون الانتقام ، وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله .

وقال أبو الليث : النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه ؛ لا إلى جميعه ؛ كما قال - تعالى - : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ( آل عمران : 7 ) لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق ، فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة ؛ فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول أن يفسره ، وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة ، فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع ، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير ، فلا بأس به ولو أنه يعلم التفسير ، فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به . ولو قال : المراد من الآية كذا من غير أن يسمع منه شيئا فلا يحل ، وهو الذي نهى عنه . انتهى .

وقال الراغب في مقدمة " تفسيره " : اختلف الناس في تفسير القرآن : هل يجوز [ ص: 306 ] لكل ذي علم الخوض فيه ؟ فمنهم من بالغ ومنع الكلام - ولو تفنن الناظر في العلوم ، واتسع باعه في المعارف - إلا بتوقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو عمن شاهد التنزيل من الصحابة ، أو من أخذ منهم من التابعين ، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ . وفي رواية : من قال في القرآن برأيه فقد كفر .

وقيل : إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره ؛ والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة الأغراض ، واحتجوا بقوله - تعالى - : ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ( ص : 29 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية