الرابع :  
خطاب العام والمراد الخصوص     :  
وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن ، فأنكره بعضهم ؛ لأن الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة ، كقوله - تعالى - :  
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما     ( العنكبوت : 14 ) والصحيح أنه واقع .  
كقوله :  
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم     ( آل عمران : 173 ) وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعا ؛ والمراد بعضهم ؛ لأن القائلين غير المقول لهم ، والمراد بالأول  
نعيم بن سعيد الثقفي ،  والثاني  
أبو سفيان  وأصحابه . قال  
الفارسي     : ومما يقوي أن المراد بالناس في قوله :  
إن الناس قد جمعوا لكم  واحد - قوله :  
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه     ( آل عمران : 175 ) فوقعت الإشارة بقوله : ( ذلكم ) إلى واحد بعينه ، ولو كان المعني به جمعا لكان " إنما الشياطين الشياطين " فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ ، وقيل بل وضع فيه ( الذين ) موضع الذي .   
[ ص: 352 ] وقوله :  
وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس     ( البقرة : 13 ) يعني  
 nindex.php?page=showalam&ids=106عبد الله بن سلام     .  
وقوله :  
إن الذين ينادونك من وراء الحجرات     ( الحجرات : 4 ) قال  
الضحاك     : وهو  
الأقرع بن حابس     .  
وقوله - تعالى - :  
ياأيها الناس اتقوا ربكم     ( النساء : 1 ) لم يدخل فيه الأطفال والمجانين .  
ثم التخصيص يجيء تارة في آخر الآية ، كقوله - تعالى - :  
وآتوا النساء صدقاتهن نحلة     ( النساء : 4 ) فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقلة أو مجنونة ثم خص في آخرها بقوله :  
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا  الآية ( النساء : 4 ) ، فخصها بالعاقلة البالغة ؛ لأن من عداها عبارتها ملغاة في العفو .  
ونظيره قوله :  
والمطلقات يتربصن بأنفسهن     ( البقرة : 228 ) فإنه عام في البائنة والرجعية ثم خصها بالرجعية بقوله :  
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك     ( البقرة : 228 ) لأن البائنة لا تراجع .  
وتارة في أولها كقوله - تعالى - :  
ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا     ( البقرة : 229 ) فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج ثم قال بعد :  
فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به     ( البقرة : 229 ) فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره إذا كان ملكا لها .  
وقد يأخذ التخصيص من آية أخرى كقوله - تعالى - :  
ومن يولهم يومئذ دبره  الآية ( الأنفال : 16 ) ، فهذا عام في المقاتل كثيرا أو قليلا ، ثم قال :  
إن يكن منكم عشرون صابرون  الآية ( الأنفال : 65 ) .  
ونظيره قوله :  
حرمت عليكم الميتة     ( المائدة : 3 ) وهذا عام في جميع الميتات ، ثم خصه بقوله :  
فكلوا مما أمسكن عليكم     ( المائدة : 4 ) فأباح الصيد الذي يموت في فم الجارح المعلم .  
وخصص أيضا عمومه في آية أخرى قال :  
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة     ( المائدة : 96 ) تقديره : وإن كانت ميتة فخص بهذه الآية      
[ ص: 353 ] عموم تلك . ومثله قوله - تعالى - :  
أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم     ( النور : 29 ) .  
ونظيره قوله :  
والدم     ( البقرة : 173 ) ، وقال في آية أخرى :  
إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا     ( الأنعام : 145 ) يعني إلا الكبد والطحال ؛ فهو حلال .  
ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام ، وهي مكية ، والآية العامة في سورة المائدة ( الآية : 3 ) ، وهي مدنية ، وقد تقدم الخاص على العام في هذا الموضع ، كما تقدم في النزول آية الوضوء ؛ على أنه التيمم ، وهذا ماش على مذهب  
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  في أن  
العبرة بالخاص ؛ سواء تقدم أم تأخر     .  
ومثله قوله - تعالى - :  
وآتيتم إحداهن قنطارا  الآية ( النساء : 20 ) وهذا عام سواء رضيت المرأة أم لا ، ثم خصها بقوله :  
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه     ( النساء : 4 ) ، وخصها بقوله :  
فلا جناح عليهما فيما افتدت به     ( البقرة : 229 ) .  
ومثله قوله - تعالى - :  
والمطلقات يتربصن بأنفسهن  الآية ( البقرة : 228 ) ، فهذا عام في المدخول بها وغيرها ثم خصها فقال :  
ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن  الآية ( الأحزاب : 49 ) ، فخص الآيسة والصغيرة والحامل ؛ فالآيسة والصغيرة بالأشهر ، والحامل بالوضع .  
ونظيره قوله :  
والذين يتوفون منكم  الآية ( البقرة : 234 ) ، وهذا عام في الحامل والحائل ، ثم خص بقوله :  
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن     ( الطلاق : 4 ) .  
ونظيره قوله - تعالى - :  
فانكحوا ما طاب لكم من النساء  الآية ( النساء : 3 ) ، وهذا عام في ذوات المحارم والأجنبيات ، ثم خص بقوله :  
حرمت عليكم أمهاتكم  الآية ( النساء : 23 ) ، وقوله :  
الزانية والزاني     ( النور : 2 ) عام في الحرائر والإماء ، ثم خصه بقوله :  
فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب     ( النساء : 25 ) .  
وقوله :  
لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة     ( البقرة : 254 ) فإن الخلة عامة ، ثم خصها بقوله :      
[ ص: 354 ] الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين     ( الزخرف : 67 ) .  
وكذلك قوله :  
ولا شفاعة     ( البقرة : 254 ) بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .  
فائدة  
قد يكون الكلامان متصلين ، وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عاما ؛ وذلك نحو قولهم لمن أعطى زيدا درهما : أعط عمرا ، فإن لم تفعل فما أعطيت ؛ يريد إن لم تعط عمرا ، فأنت لم تعط زيدا أيضا ، وذاك غير محسوب لك . ذكره  
ابن فارس ،  وخرج عليه قوله - تعالى - :  
بلغ ما أنزل إليك من ربك     ( المائدة : 67 ) قال : فهذا خاص به يريد هذا الأمر المحدد بلغه ،  
وإن لم تفعل     ( المائدة : 67 ) ولم تبلغ  
فما بلغت رسالته     ( المائدة : 67 ) يريد جميع ما أرسلت به .  
قلت : وهو وجه حسن ؛ وفي الآية وجوه أخر :  
أحدها : أن المعنى أنك إن تركت منها شيئا كنت كمن لا يبلغ شيئا منها ، فيكون ترك البعض محبطا للباقي . قال  
الراغب     : وكذلك أن حكم الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في تكليفاتهم أشد ، وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ؛ وروي هذا المعنى عن  
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس     - رضي الله عنهما .  
والثاني : قال  
الإمام فخر الدين     : إنه من باب قوله :  
أنا أبو النجم وشعري شعري  
 [ ص: 355 ] معناه : أن شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حد شيء قيل في نظم : إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير المبالغة التامة في المدح من هذا الوجه . وكذا جواب الشرط هاهنا ؛ يعني به أنه لا يمكن أن يوصف ترك بعض المبلغ تهديدا أعظم من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد ، وضعف الوجه الذي قبله بأن من أتى بالبعض وترك البعض ، لو قيل : إنه ترك الكل كان كذبا ، ولو قيل : إن الخلل في ترك البعض ، كالخلل في ترك الكل ، فإنه أيضا محال .  
وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر ؛ لأنه إذا كان متى أتي به غير معتد به فوجوده كالعدم ، كقول الشاعر :  
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا      فسيان لا ذم عليك ولا حمد  
؛ أي ولم تعط ما يعد نائلا ، وإلا يتكاذب البيت .  
الثالث : أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل ، كما في قوله - تعالى - :  
فكأنما قتل الناس جميعا     ( المائدة : 32 ) .  
الرابع : أنه  
وضع السبب موضع المسبب ،  ومعناه : إن لم تفعل ذلك ، فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العذاب . ذكر هذا والذي قبله صاحب " الكشاف " .  
تنبيه : قال الإمام  
أبو بكر الرازي     : وفي هذه الآية دلالة على أن كل ما      
[ ص: 356 ] كان من الأحكام للناس إليه حاجة عامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغه الكافة ، وإنما وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر ؛ نحو الوضوء من مس الفرج ومن مس المرأة ، ومما مست النار ونحوها ، لعموم البلوى بها ، فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر ، علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل . انتهى .  
وهذه الدلالة ممنوعة ؛ لأن التبليغ مطلق غير مقيد بصورة التواتر فيما تعم به البلوى ، فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل . ومن المعلوم أن  
الله - سبحانه - لم يكلف رسوله - صلى الله عليه وسلم - إشاعة شيء إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن ؛  لأنه المعجز الأكبر ، وطريق معرفته القطع ، فأما باقي الأحكام فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرسل بها إلى الآحاد والقبائل ، وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا .