الحادي والعشرون :
إقامة صيغة مقام أخرى . وله صور :
فمنه " فاعل " بمعنى مفعول ، كقوله - تعالى - :
لا عاصم اليوم من أمر الله ( هود : 43 ) أي لا معصوم .
وقوله - تعالى - :
من ماء دافق ( الطارق : 6 ) أي مدفوق .
و
في عيشة راضية أي مرضية بها ، وقيل : على النسب ، أي ذات رضا ، وهو مجاز إفراد لا تركيب .
وقوله :
أنا جعلنا حرما آمنا ( العنكبوت : 67 ) أي مأمونا فيه .
وجعلنا آية النهار مبصرة ( الإسراء : 12 ) أي مبصور
[ ص: 399 ] فيها
في يوم عاصف ( إبراهيم : 18 ) لأن المعصوف يكون فيه . وقوله : وخير أملا ( الكهف : 46 ) أي مأمولا ، وعكسه :
إنه كان وعده مأتيا ( مريم : 61 ) أي آتيا .
وجعل منه بعضهم قوله - تعالى - :
حجابا مستورا ( الإسراء : 45 ) أي ساترا ، وحكى
الهروي في " الغريب " عن أهل اللغة : وتأويل الحجاب الطبع . وقال
السهيلي : الصحيح أنه على بابه ، أي مستورا عن العيون ، ولا يحس به أحد ، والمعنى : مستور عنك وعنهم ، كما قال - تعالى - :
وما يعلم جنود ربك إلا هو ( المدثر : 31 ) وقال
الجوهري : أي حجابا على حجاب ، والأول مستور بالثاني ، يراد بذلك كثافة الحجاب ؛ لأنه جعل على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا .
قال
أبو الفتح في كتابه ( هذا القد ) : وسألته - يعني
الفارسي - إذا جعلت فاعلا بمعنى مفعول ، فعلام ترفع الضمير الذي فيه ؟ أعلى حد ارتفاع الضمير في اسم الفاعل أم اسم المفعول ؟ فقال : إن كان بمعنى " مفعول " ارتفع الضمير فيه ارتفاع الضمير في اسم الفاعل ، وإن جاء على لفظ اسم الفاعل .
ومنه " فعيل " بمعنى " مفعول " كقوله :
وكان الكافر على ربه ظهيرا ( الفرقان : 55 )
[ ص: 400 ] أي مظهورا فيه ، ومنه ظهرت به فلم ألتفت إليه . أما نحو : فله عذاب أليم ( البقرة : 178 ) فقال بعض النحويين : إنه بمعنى " مؤلم " ورده
النحاس ، بأن " مؤلما " يجوز أن يكون قد آلم ثم زال ، وأليم أبلغ لأنه يدل على الملازمة ، قال : ولهذا منع النحويون إلا
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أن يعدى فعيل .
ومنه مجيء المصدر على فعول كقوله - تعالى - :
لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ( الفرقان : 62 ) ، وقوله :
لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ( الإنسان : 9 ) فإنه ليس المراد الجمع هنا ، بل المراد : لا نريد منكم شكرا أي أصلا ، وهذا أبلغ في قصد الإخلاص في نفي الأنواع .
وزعم
السهيلي أنه جمع شكر ، وليس كذلك لفوات هذا المعنى .
ومنها إقامة الفاعل مقام المصدر نحو :
ليس لوقعتها كاذبة ( الواقعة : 2 ) أي تكذيب ، وإقامة المفعول مقام المصدر نحو :
بأييكم المفتون ( القلم : 6 ) أي الفتنة .
ومنه وصف الشيء بالمصدر ، كقوله - تعالى - :
فإنهم عدو لي ( الشعراء : 77 ) قالوا : إنما وحده ، لأنه في معنى المصدر ، كأنه قال : فإنهم عداوة .
ومجيء المصدر بمعنى المفعول ، كقوله - تعالى - :
ولا يحيطون بشيء من علمه ( البقرة : 255 ) أي من معلومه .
وقوله :
ذلك مبلغهم من العلم ( النجم : 30 ) أي من العلوم وقوله :
صنع الله ( النمل : 88 ) أي مصنوعه .
وقوله :
هذا رحمة من ربي ( الكهف : 98 ) أي مترحم : قاله
الفارسي .
وكذا قوله :
فأعينوني بقوة ( الكهف : 95 ) أي مقوى به ، ألا ترى أنه أراد منهم زبر الحديد والنفخ عليها .
وقوله :
وقد خاب من حمل ظلما ( طه : 111 ) أي مظلوما فيه .
[ ص: 401 ] وقوله - تعالى - :
وجاءوا على قميصه بدم كذب ( يوسف : 18 ) أي مكذوب فيه ، وإلا لو كان على ظاهره لأشكل ؛ لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام . وقال
الفراء : يجوز في النحو : بدم كذبا بالنصب على المصدر ؛ لأن جاءوا فيه معنى كذبوا كذبا ، كما قال - تعالى - :
والعاديات ضبحا ( العاديات : 1 ) لأن العاديات بمعنى الضابحات . وعكسه :
وإنه لذو علم لما علمناه ( يوسف : 68 ) .
ومنه " فعيل " بمعنى الجمع ، كقوله - تعالى - :
والملائكة بعد ذلك ظهير ( التحريم : 4 ) . وقوله :
خلصوا نجيا ( يوسف : 80 ) . وقوله :
وحسن أولئك رفيقا ( النساء : 69 ) . وشرط بعضهم أن يكون المخبر عنه جمعا ، وأنه لا يجيء ذلك في المثنى ، ويرده قوله - تعالى - :
عن اليمين وعن الشمال قعيد ( ق : 17 ) فإنه نقل
الواحدي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد ، وابن عطية ، عن
الفراء ، أن " قعيد " أسند لهما .
وقد يقع الإخبار بلفظ الفرد عن لفظ الجمع ، وإن أريد معناه لنكتة ، كقوله - تعالى - :
أم يقولون نحن جميع منتصر ( القمر : 44 ) فإن سبب النزول ، وهو قول
أبي جهل : نحن ننتصر اليوم ، يقضي بإعراب " منتصر " خبرا .
ومنه إطلاق الخبر وإرادة الأمر كقوله - تعالى - :
والوالدات يرضعن أولادهن ( البقرة : 233 ) أي ليرضع الوالدات أولادهن .
وقوله :
يتربصن بأنفسهن ( البقرة : 234 ) أي تتربص المتوفى عنها .
وقوله :
تزرعون سبع سنين دأبا ( يوسف : 47 ) والمعنى ازرعوا سبع سنين ، بدليل قوله :
فذروه في سنبله ( يوسف : 47 ) .
[ ص: 402 ] وقوله :
تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون ( الصف : 11 ) معناه آمنوا وجاهدوا ، ولذلك أجيب بالجزم في قوله :
تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات ( الصف : 12 ) ولا يصح أن يكون جوابا للاستفهام في قوله : هل أدلكم ( الصف : 10 ) لأن المغفرة وإدخال الجنان لا يترتبان على مجرد الدلالة ، قاله
أبو البقاء والشيخ
عز الدين .
والتحقيق ما قاله
النيلي : أنه جعل الدلالة على التجارة سببا لوجودها ، والتجارة هي الإيمان ، ولذلك فسرها بقوله :
تؤمنون ( الصف : 11 ) فعلم أن التجارة من جهة الدلالة هي الإيمان فالدلالة سبب الإيمان ، والإيمان سبب الغفران ، وسبب السبب سبب ، وهذا النوع فيه تأكيد ، وهو من مجاز التشبيه ، شبه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لا بد من وقوعه ، وإذا شبهه بالخبر الماضي كان آكد .
ومنه عكسه كقوله - تعالى - :
فليمدد له الرحمن مدا ( مريم : 75 ) والتقدير : مده الرحمن مدا .
وقوله :
اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ( العنكبوت : 12 ) أي نحمل .
قال
الكواشي : والأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم ، نحو : إن زرتنا
[ ص: 403 ] فلنكرمك . يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم ، كذا قال الشيخ
عز الدين ؛ مقصوده تأكيد الخبر ؛ لأن الأمر للإيجاب يشبه الخبر في إيجابه .
وجعل
الفارسي منه قوله تعالى :
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن ( النحل : 40 ) قال : ( كن ) لفظه أمر ، والمراد الخبر ، والتقدير : يكون فيكون ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، قال : ولهذا أجمع القراء على رفع ( فيكون ) ورفضوا فيه النصب إلا ما روي عن
ابن عامر ، وسوغ النصب لكونه بصيغة الأمر ، قال : ولا يجوز أن يكون معطوفا على ( نقول ) فيجيء النصب على الفعل المنصوب بأن ؛ لأن ذلك لا يطرد ، بدليل قوله :
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ( آل عمران : 59 ) إذ لا يستقيم هنا العطف المذكور ؛ لأن ( قال ) ماض ، ( ويكون ) مضارعا ، فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما .
قلت : وهذا الذي قاله
الفارسي ضعيف مخالف لقواعد أهل السنة .
ومنه إطلاق الخبر وإرادة النهي ، كقوله :
لا تعبدون إلا الله ( البقرة : 83 ) ومعناه لا تعبدوا .
وقوله :
لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم ( البقرة : 84 ) أي لا تسفكوا ولا تخرجوا .
وقوله :
وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ( البقرة : 272 ) أي ولا تنفقوا .