[ ص: 425 ] النوع الخامس والأربعون
في
أقسام معنى الكلام
زعم قوم أن معاني القرآن لا تنحصر ، ولم يتعرضوا لحصرها ، وحكاية
ابن السيد عن أكثر
البصريين في زمانه .
وقيل : قسمان : خبر ، وغير خبر .
وقيل : عشرة : نداء ، ومسألة ، وأمر ، وتشفع ، وتعجب ، وقسم ، وشرط ، ووضع ، وشك ، واستفهام .
وقيل : تسعة ، وأسقطوا الاستفهام لدخوله في المسألة .
وقيل : ثمانية ، وأسقطوا التشفع لدخوله في المسألة .
وقيل : سبعة ، وأسقطوا الشك لأنه في قسم الخبر .
وكان
nindex.php?page=showalam&ids=13674أبو الحسن الأخفش يرى أنها ستة أيضا ، وهي عنده : الخبر والاستخبار ، والأمر والنهي ، والنداء ، والتمني .
وقيل : خمسة : الخبر ، والأمر ، والتصريح ، والطلب ، والنداء ، وقيل غير ذلك .
الأول : الخبر
والقصد به إفادة المخاطب ، وقد يشرب مع ذلك معاني أخر :
منها التعجب ، قال
ابن فارس : وهو تفضيل الشيء على أضرابه . وقال
ابن الضائع : استعظام صفة خرج بها المتعجب منه عن نظائره ، نحو : ما أحسن زيدا ! وأحسن
[ ص: 426 ] به ! استعظمت حسنه على حسن غيره .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في تفسير سورة الصف : معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين ؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله .
وقال
الرماني : المطلوب في التعجب الإبهام ؛ لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لا يعرف سببه ، وكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن ؛ قال :
وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي سببه ، والصيغة الدالة عليه تسمى تعجبا ، يعني مجازا . قال : ومن أجل الإبهام لم تعمل " نعم " إلا في الجنس من أجل التفخيم ؛ ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر .
ثم قد وضعوا للتعجب صيغا من لفظه ، وهي : ما أفعله ، وأفعل به ، وصيغا من غير لفظه نحو " كبر " في نحو :
كبرت كلمة تخرج من أفواههم ( الكهف : 5 ) ،
كبر مقتا عند الله ( الصف : 3 ) ،
كيف تكفرون بالله ( البقرة : 28 ) واحتج
الثمانيني على أنه خبر بقوله - تعالى - :
أسمع بهم وأبصر ( مريم : 38 ) تقديره : ما أسمعهم وأبصرهم ! والله - سبحانه - لم يتعجب بهم ، ولكن دل المكلفين على أن هؤلاء قد نزلوا منزلة من يتعجب منه ، وهنا مسألتان :
الأولى : قيل : لا يتعجب من فعل الله ، فلا يقال : ما أعظم الله ؛ لأنه يؤول إلى : شيء عظم الله ، كما في غيره من صيغ التعجب ، وصفات الله - تعالى - قديمة . وقيل : بجوازه باعتبار أنه يحب تعظيم الله بشيء من صفاته ، فهو يرجع لاعتقاد العباد عظمته وقدرته ، وقد قال الشاعر :
[ ص: 427 ] ما أقدر الله أن يدني على شحط من داره الحزن ممن داره صول
والأولون قالوا : هذا أعرابي جاهل بصفات الله . وقال بعض المحققين : التعحب إنما يقال لتعظيم الأمر المتعجب منه ، ولا يخطر بالبال أن شيئا صيره كذلك ، وخفي علينا ، فلا يمتنع حينئذ التعجب من فعل الله .
والثانية :
هل يجوز إطلاق التعجب في حق الله - تعالى ؟ فقيل : بالمنع ؛ لأن التعجب استعظام ويصحبه الجهل ، والله - سبحانه - منزه عن ذلك ، وبه جزم
ابن عصفور في المقرب .
قال : فإن ورد ما ظاهره ذلك صرف إلى المخاطب ، كقوله :
فما أصبرهم على النار ( البقرة : 175 ) أي هؤلاء يجب أن يتعجب منهم .
وقيل بالجواز لقوله :
فما أصبرهم على النار ( البقرة : 175 ) إن قلنا : " ما " تعجبية لا استفهامية ، وقوله : (
بل عجبت ) ( الصافات : 12 ) في قراءة بعضهم بالضم .
والمختار الأول ، وما وقع منه أول بالنظر إلى المخاطب ، أي علمت أسباب ما يتعجب منه العباد ، فسمى العلم بالعجب عجبا .
وأصل الخلاف في هذه المسألة يلتف على خلاف آخر ، وهو أن حقيقة التعجب ؛ هل يشترط فيه خفاء سببه فيتحير فيه المتعجب منه أو لا ؟ ولم يقع في القرآن صيغة التعجب إلا قوله :
[ ص: 428 ] فما أصبرهم على النار ( البقرة : 175 ) وقوله :
قتل الإنسان ما أكفره ( عبس : 17 ) و (
ياأيها الإنسان ما غرك ) ( الانفطار : 6 ) في قراءة من زاد الهمزة .
ثم قال المحققون : التعجب مصروف إلى المخاطب ، ولهذا تلطف
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري فيعبر عنه بالتعجب ، ومجيء التعجب من الله كمجيء الدعاء منه والترجي ؛ وإنما هذا بالنظر إلى ما تفهمه العرب ، أي هؤلاء عندكم ممن يجب أن تقولوا لهم هذه . وكذلك تفسير
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه قوله - تعالى - :
لعله يتذكر أو يخشى ( طه : 44 ) قال : المعنى : اذهبا على رجائكما وطمعكما . قال
ابن الضائع : وهو حسن جدا .
قلت : وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه أيضا قوله - تعالى - :
ويل يومئذ للمكذبين ( المرسلات : 15 ) ،
ويل للمطففين ( المطففين : 1 ) فقال : لا ينبغي أن تقول إنه دعاء هاهنا ، لأن الكلام بذلك قبيح ، ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم ، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون فكأنه - والله أعلم - قيل لهم :
ويل للمطففين ( المطففين : 1 ) و
ويل يومئذ للمكذبين ( المرسلات : 15 ) أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم ؛ لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة ، فقيل : هؤلاء ممن دخل في الهلكة ، ووجب لهم هذا . انتهى .
ومنها الأمر كقوله - تعالى - :
والمطلقات يتربصن ( البقرة : 228 ) ،
والوالدات يرضعن ( البقرة : 233 ) فإن السياق يدل على أن الله - تعالى - أمر بذلك ؛ لا أنه خبر وإلا لزم الخلف في الخبر ، وسبق في المجاز .
ومنها النهي ، كقوله - تعالى - :
لا يمسه إلا المطهرون ( الواقعة : 79 ) .
ومنها الوعد ، كقوله :
سنريهم آياتنا في الآفاق ( فصلت : 53 ) .
[ ص: 429 ] ومنها الوعيد كقوله - تعالى - :
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ( الشعراء : 227 ) .
ومنها الإنكار والتبكيت ، نحو :
ذق إنك أنت العزيز الكريم ( الدخان : 49 ) .
ومنها الدعاء ، كقوله - تعالى - :
إياك نعبد وإياك نستعين ( الفاتحة : 5 ) أي أعنا على عبادتك .
وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرطا وجزاء ؛ كقوله :
إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون ( الدخان : 15 ) فظاهره خبر ، والمعنى : إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا .
ومنه قوله :
الطلاق مرتان ( البقرة : 229 ) من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف ، أو يسرحها بإحسان .
ومنها
التمني ، وكلمته الموضوعة له " ليت " وقد يستعمل فيه ثلاثة أحرف .
أحدها : " هل " ، كقوله :
فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ( الأعراف : 53 ) حملت " هل " على إفادة التمني لعدم التصديق بوجود شفيع في ذلك المقام ، فيتولد التمني بمعونة قرينة الحال .
والثاني : " لو " سواء كانت مع " ود " كقوله - تعالى - : (
ودوا لو تدهن فيدهنون ) ( القلم : 9 ) بالنصب ، أو لم تكن ، كقوله - تعالى - :
لو أن لي بكم قوة ( هود : 80 ) ، وقوله :
لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم ( البقرة : 167 ) ،
لو أن لي كرة فأكون ( الزمر : 58 ) .
والثالث : " لعل " كقوله - تعالى - : (
لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع ) ( غافر : 36 ، 37 ) في قراءة النصب .
[ ص: 430 ] واختلف هل التمني خبر ومعناه النفي ، أو ليس بخبر ، ولهذا لا يدخله التصديق والتكذيب ؛ قولان عن أهل العربية ، حكاهما
ابن فارس في كتاب " فقه العربية " .
nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري بنى كلامه على أنه ليس بخبر ، واستشكل دخول التكذيب في جوابه ، وفي قوله - تعالى - :
ياليتنا نرد ولا نكذب ( الأنعام : 27 ) إلى قوله :
وإنهم لكاذبون ( الأنعام : 28 ) وأجاب بتضمنه معنى العدة ، فدخله التكذيب .
وقال
ابن الضائع : التمني حقيقة لا يصح فيه الكذب ؛ وإنما يرد الكذب في التمني الذي يترجح عند صاحبه وقوعه ؛ فهو إذن وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن ، وهو خبر صحيح .
قال : وليس المعنى في قوله :
وإنهم لكاذبون ( الأنعام : 28 ) أن ما تمنوا ليس بواقع ؛ لأنه ورد في معرض الذم لهم ، وليس في ذلك المعنى ذم ، بل التكذيب ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون ، وأنهم يؤمنون .
ومنها
الترجي ؛ والفرق بينه وبين التمني أن الترجي لا يكون إلا في الممكنات ، والتمني يدخل المستحيلات .
ومنها النداء ؛ وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بحرف مخصوص ، وإنما يصحب في الأكثر الأمر والنهي كقوله :
ياأيها الناس اعبدوا ربكم ( البقرة : 21 )
ياأيها النبي اتق الله ( الأحزاب : 1 ) ،
ياعباد فاتقون ( الزمر : 16 ) ،
ويا قوم استغفروا ربكم ( هود : 52 ) ،
ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( الحجرات : 1 ) ،
ياأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم ( التحريم : 7 ) .
وربما تقدمت جملة الأمر جملة النداء ، كقوله - تعالى - :
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ( النور : 31 ) .
وإذا
جاءت جملة الخبر بعد النداء تتبعها جملة الأمر ، كما في قوله - تعالى - :
ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له ( الحج : 73 ) . وقد تجيء معه الجمل الاستفهامية
[ ص: 431 ] والخبرية ، كقوله - تعالى - في الخبر :
ياعباد لا خوف عليكم ( الزخرف : 68 ) ، و
ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل ( يوسف : 100 ) ،
ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ( هود : 64 ) ،
ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ( فاطر : 15 ) وفي الاستفهام :
ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ( مريم : 42 ) ،
ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة ( غافر : 41 )
ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( الصف : 2 )
ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ( التحريم : 1 ) .
وهنا فائدتان :
إحداهما : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري - رحمه الله - كل نداء في كتاب الله يعقبه فهم في الدين ، إما من ناحية الأوامر والنواهي التي عقدت بها سعادة الدارين ، وإما مواعظ وزواجر وقصص لهذا المعنى ؛ كل ذلك راجع إلى الدين الذي خلق الخلق لأجله ، وقامت السماوات والأرض به ، فكان حق هذه أن تدرك بهذه الصيغة البليغة .
الثانية :
النداء إنما يكون للبعيد حقيقة أو حكما ؛ وفي قوله - تعالى - :
وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ( مريم : 52 ) لطيفة ؛ فإنه - تعالى - بين أنه كما ناداه ناجاه أيضا ؛ والنداء مخاطبة الأبعد ، والمناجاة مخاطبة الأقرب ، ولأجل هذه اللطيفة أخبر - سبحانه - عن مخاطبته
لآدم وحواء ، بقوله :
وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة ( البقرة : 35 ) .
وفي موضع :
ويا آدم اسكن ( الأعراف : 19 ) ثم لما حكى عنهما ملابسة المخالفة ، قال في وصف خطابه لهما :
وناداهما ربهما ( الأعراف : 22 ) فأشعر هذا اللفظ بالبعد لأجل المخالفة ، كما أشعر اللفظ الأول بالقرب عند السلامة منها .
وقد يستعمل النداء في غير معناه مجازا في مواضع :
الأول : الإغراء والتحذير ، وقد اجتمعا في قوله - تعالى - :
ناقة الله وسقياها ( الشمس : 13 ) والإغراء أمر معناه الترغيب والتحريض ، ولهذا خصوا به المخاطب .
[ ص: 432 ] الثاني : الاختصاص ؛ وهو كالنداء إلا أنه لا حرف فيه .
الثالث : التنبيه ، نحو :
ياليتني مت قبل هذا ( مريم : 23 ) لأن حرف النداء يختص بالأسماء .
وقال
النحاس في قوله - تعالى - :
ياويلتى ( الفرقان : 28 ) نداء مضاف ، والفائدة فيه أن معناه : هذا وقت حضور الويل . وقال
الفارسي في قوله - تعالى - :
ياحسرة على العباد ( يس : 30 ) معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداه لكان هذا وقتها .
وقد اختلف في أن النداء خبر أم لا ، قال
أبو البقاء في شرح الإيضاح : ذهب الجميع إلى أن قولك : يا زيد ، ليس بخبر محتمل للتصديق والتكذيب ، إنما هو بمنزلة الإشارة والتصويت . واختلفوا في قولك : يا فاسق فالأكثرون على أنه ليس بخبر أيضا ، قال
أبو علي الفارسي : خبر لأنه تضمن نسبته للفسق .
ومنها الدعاء ، نحو :
تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) وقوله :
قاتلهم الله ( المنافقون : 4 ) ،
حصرت صدورهم ( النساء : 90 ) ،
ويل للمطففين ( المطففين : 1 ) .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : هذا دعاء وأنكره
ابن الطراوة لاستحالته هنا ، وجوابه أنه مصروف
[ ص: 433 ] للخلق وإعلامهم بأنهم أهل لأن يدعى عليهم ، كما في الرجاء وغيره مما سبق .
فائدة
ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أن الاستعطاف ، نحو : تالله هل قام زيد - قسم ، والصحيح أنه ليس بقسم ، لكونه خبرا .