صفحة جزء
القسم الثامن عشر القسم وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر ، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( المنافقون : 1 ) قسما ، وإن كان فيه إخبار ، إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمي قسما .

ولا يكون إلا باسم معظم كقوله : فورب السماء والأرض إنه لحق ( الذاريات : 23 ) وقوله : قل إي وربي إنه لحق ( يونس : 53 ) .

وقوله : قل بلى وربي لتبعثن ( التغابن : 7 ) .

وقوله : فوربك لنحشرنهم والشياطين ( مريم : 68 ) .

وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين ( الحجر : 92 ) .

وقوله : فلا وربك لا يؤمنون ( النساء : 65 ) .

وقوله : فلا أقسم برب المشارق والمغارب ( المعارج : 40 ) .

فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه ، والباقي كله أقسم بمخلوقاته .

كقوله : والتين والزيتون ( التين : 1 ) .

فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ( الواقعة : 75 - 76 ) .

[ ص: 122 ] فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس ( التكوير : 15 - 16 ) .

وإنما يحسن في مقام الإنكار .

فإن قيل : ما معنى القسم منه سبحانه ؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الإخبار ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده .

فالجواب : قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : " إن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها ، وذلك أن الحكم يفصل باثنين : إما بالشهادة ، وإما بالقسم ، فذكر الله تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقي لهم حجة .

فقال : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ( آل عمران : 18 ) وقال : قل إي وربي إنه لحق ( يونس : 53 ) .

وقوله : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ( الحجر : 72 ) .

وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق ( الذاريات : 22 - 23 ) صاح وقال : من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين ؟ قالها ثلاثا ، ثم مات .

فإن قيل : كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألا نقسم بمخلوق ؟ قيل : فيه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنه حذف مضاف ، أي : " ورب الفجر " و " رب التين " ، وكذلك الباقي .

والثاني : أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها ; فنزل القرآن على ما يعرفون .

والثالث : أن الأقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظمه ، أو بمن يجله ; وهو فوقه ، [ ص: 123 ] والله تعالى ليس شيء فوقه ; فأقسم تارة بنفسه ، وتارة بمصنوعاته ; لأنها تدل على بارئ وصانع ، واستحسنه ابن خالويه .

وقسمه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : ( لعمرك ) ( الحجر : 72 ) ; ليعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في " كنز اليواقيت " : " والقسم بالشيء لا يخرج عن وجهين : إما لفضيلة ، أو لمنفعة ; فالفضيلة كقوله تعالى : ( وطور سينين وهذا البلد الأمين ) ( التين : 2 - 3 ) والمنفعة نحو : والتين والزيتون ( التين : 1 ) .

وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء : أحدها : بذاته كقوله تعالى : فورب السماء والأرض ( الذاريات : 23 ) فوربك لنسألنهم أجمعين ( الحجر : 92 ) .

والثاني بفعله ، نحو : والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها ( الشمس : 5 - 6 - 7 ) .

والثالث : مفعوله نحو : والنجم إذا هوى ( النجم : 1 ) والطور وكتاب مسطور ( الطور : 1 - 2 ) .

وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر : فالمظهر كقوله تعالى : فورب السماء والأرض ( الذاريات : 23 ) ونحوه .

والمضمر على قسمين : قسم دلت عليه لام القسم ; كقوله : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ( آل عمران : 186 ) ، وقسم دل عليه المعنى ; كقوله تعالى : وإن منكم إلا واردها ( مريم : 71 ) تقديره : " والله " .

وقد أقسم تعالى بطوائف من الملائكة في أول سورة الصافات ، والمرسلات ، والنازعات .

[ ص: 124 ] فوائد : الأولى : أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو ، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل ; كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( النحل : 38 ) يحلفون بالله ( التوبة : 62 ) ولا تجيء الباء والفعل محذوفا إلا قليلا ، وعليه حمل بعضهم قوله : ( يابني لا تشرك بالله ) ( لقمان : 13 ) وقال : الباء باء القسم ، وليست متعلقة بـ " تشرك " وكأنه يقول : يا بني لا تشرك ثم ابتدأ فقال : بالله لا تشرك ; وحذف " لا تشرك " لدلالة الكلام عليه ، وكذلك قوله : ادع لنا ربك بما عهد عندك ( الزخرف : 49 ) قيل : إن قوله : " بما عهد " قسم ; والأولى أن يقال : إنه سؤال لا قسم .

وقوله : ( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته ) ( المائدة : 116 ) فتقف على ( لي ) وتبتدئ بحق فتجعله قسما .

هذا مع قول النحويين : إن الواو فرع الياء ; لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقل الأصل .

الثانية : قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه ; فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد ، وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف .

فما زادوه لفظ " إي " بمعنى " نعم " كقوله تعالى : ( قل إي وربي ) ( يونس : 53 ) .

ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر ، ويكون الجواب مذكورا ، كقوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله ( الأحزاب : 21 ) أي " والله " .

وقوله : لأقطعن أيديكم ( الشعراء : 49 ) لنسفعن بالناصية ( العلق : 15 ) ليسجنن وليكونن من الصاغرين ( يوسف : 32 ) .

وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به ; كقوله تعالى : ( ص والقرآن ذي الذكر ) [ ص: 125 ] ( ص : 1 ) على أحد الأقوال ; أن الجواب حذف لطول الكلام ; وتقديره " لأعذبنهم على كفرهم " .

وقيل : الجواب إن ذلك لحق .

ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى : قالوا نشهد إنك لرسول الله ( المنافقون : 1 ) أي : نحلف إنك لرسول الله ; لأن الشهادة بمعنى اليمين ، بدليل قوله : ( أيمانهم جنة ) ( المنافقون : 2 ) .

وأما قوله تعالى : فالحق والحق أقول ( ص : 84 ) فالأول قسم بمنزلة " والحق " وجوابه : " لأملأن " ، وقوله : والحق أقول ( ص : 84 ) توكيد للقسم .

وأما قوله : والسماء ذات البروج ( البروج : 1 ) ثم قال : قتل أصحاب الأخدود ( البروج : 4 ) قالوا : وهو جواب القسم وأصله " لقد قتل " ثم حذف اللام وقد .

الثالثة : قال الفارسي في " الحجة " : الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان : أحدهما : ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم ، فلا تجاب بجوابه ; كقوله تعالى : وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ( الحديد : 8 ) وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ( البقرة : 63 ) فيحلفون له كما يحلفون لكم ( المجادلة : 18 ) فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا ; لخلوه من الجواب .

والثاني : ما يتعلق بجواب القسم ; كقوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه ( آل عمران : 187 ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( النحل : 38 ) .

الرابعة : القسم والشرط يدخل كل منهما على الآخر ، فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم ، وأغنى عن جواب الشرط ، وإن عكس فبالعكس ، وأيهما تصدر كان الاعتماد عليه ، والجواب له .

[ ص: 126 ] ومن تقدم القسم قوله تعالى : لئن لم تنته لأرجمنك ( مريم : 46 ) تقديره : " والله لئن لم تنته " ، فاللام الداخلة على الشرط ليست بلام القسم ، ولكنها زائدة ، وتسمى الموطئة للقسم ، ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر ; أي : الشرط لا يصلح أن يكون جوابا ; لأن الجواب لا يكون إلا خبرا .

وليس دخولها على الشرط بواجب ; بدليل حذفها في قوله تعالى : وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم ( المائدة : 73 ) .

والذي يدل على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه ، وأنه ليس بمجزوم ; بدليل قوله تعالى : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( الإسراء : 88 ) ، ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما .

وأما قوله تعالى : ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ( آل عمران : 158 ) فاللام في " ولئن " هي الموطئة للقسم ، واللام في ( لإلى الله ) هي لام القسم ، ولم تدخل نون التوكيد على الفعل ; للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور ، والأصل " لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله " فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية