الوجه الثالث في أدلته : ولما كان الحذف لا يجوز إلا لدليل احتيج إلى ذكر دليله .
والدليل تارة يدل على محذوف مطلق ، وتارة على محذوف معين .
فمنها : أن يدل عليه العقل حيث تستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف ; كقوله تعالى :
واسأل القرية ( يوسف : 82 ) فإنه يستحيل عقلا تكلم الأمكنة إلا معجزة .
ومنها : أن تدل عليه العادة الشرعية ، كقوله تعالى :
إنما حرم عليكم الميتة ( النحل : 115 ) فإن الذات لا تتصف بالحل والحرمة شرعا ، إنما هما من صفات الأفعال الواقعة على الذوات ، فعلم أن المحذوف التناول ; ولكنه لما حذف وأقيمت الميتة مقامه أسند
[ ص: 181 ] إليها الفعل وقطع النظر عنه ، فلذلك أنث الفعل في بعض الصور ، كقوله تعالى :
حرمت عليكم الميتة ( المائدة : 3 ) وقول صاحب " التلخيص " : " إن هذه الآية من باب دلالة العقل " ممنوع ; لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة ، فلهذا جعلناه من دلالة العادة الشرعية .
ومنها : أن يدل العقل عليهما ; أي : على الحذف والتعيين ; كقوله تعالى :
وجاء ربك ( الفجر : 22 ) أي : أمره أو عذابه أو ملائكته ; لأن العقل دل على أصل الحذف ، ولاستحالة مجيء البارئ عقلا ; لأن المجيء من سمات الحدوث ، ودل العقل أيضا على التعيين ، وهو الأمر ونحوه ، وكلام
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري يقتضي أنه لا حذف ألبتة ، فإنه قال : هذه الآية الكريمة تمثيل ; مثلت حاله سبحانه وتعالى في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه .
وكقوله تعالى :
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) المقدمة الثانية وهو : لكنها لم تفسد فلم يكن فيها آلهة إلا الله ، لأنه في معرض التوحيد ، فعدم الفساد دليل على عدم تعدد الآلهة ، وإنما حذف لأن انتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ضرورة ، ولذلك لم يذكر المقدمة الثانية عند استعمال الشرط بلوغا لها .
ومنها أن يدل العقل على أصل الحذف ، وتدل عادة الناس على تعيين المحذوف ،
[ ص: 182 ] كقوله تعالى :
فذلكن الذي لمتنني فيه ( يوسف : 32 ) فإن
يوسف عليه السلام ليس ظرفا للومهن ، فتعين أن يكون غيره ; فقد دل العقل على أصل الحذف ، ثم يجوز أن يكون الظرف حبه بدليل :
شغفها حبا ( يوسف : 30 ) أو مراودته ; بدليل :
تراود فتاها ( يوسف : 30 ) ولكن العقل لا يعين واحدا منها ، بل العادة دلت على أن المحذوف هو الثاني ، فإن الحب لا يلام عليه صاحبه ; لأنه يقهره ويغلبه ، وإنما اللوم فيما للنفس فيه اختيار ، وهو المراودة ; لقدرته على دفعها .
ومنها : أن تدل العادة على تعيين المحذوف ; كقوله تعالى :
قالوا لو نعلم قتالا ( آل عمران : 167 ) أي : مكان قتال ، والمراد مكانا صالحا للقتال ; لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال ، والعادة تمنع أن يريدوا : لو نعلم حقيقة القتال ; فلذلك قدره
مجاهد " مكان قتال " .
وقيل : إن تعيين المحذوف هنا من دلالة السياق لا العادة .
ومنها أن يدل اللفظ على الحذف والشروع في الفعل على تعيين المحذوف كقوله :
بسم الله ( الفاتحة : 1 ) فإن اللفظ يدل على أن فيه حذفا ; لأن حرف الجر لا بد له من متعلق ، ودل الشروع على تعيينه ، وهو الفعل الذي جعلت التسمية في مبدئه ; من قراءة أو أكل أو شرب ونحوه ، ويقدر في كل موضع ما يليق ، ففي القراءة : أقرأ ، وفي الأكل : آكل ، ونحوه .
وقد اختلف هل يقدر الفعل أو الاسم ؟ وعلى الأول فهل يقدر عام كالابتداء أو خاص كما ذكرنا ؟ .
ومنها اللغة كضربت ، فإن اللغة قاضية أن الفعل المتعدي لا بد له من مفعول ; نعم هي تدل على أصل الحدث لا تعيينه ، وكذلك حذف المبتدأ والخبر .
[ ص: 183 ] ومنها : تقدم ما يدل على المحذوف وما في سياقه كقوله :
وأبصر فسوف يبصرون ( الصافات : 179 ) وفي موضع آخر نحو :
ما منعك أن تسجد ( ص : 75 ) وفي موضع :
ألا تسجد ( الأعراف : 12 ) وكقوله :
لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ( الأحقاف : 35 ) أي : هذا ، بدليل ظهوره في سورة إبراهيم ، فقال تعالى :
هذا بلاغ للناس ( إبراهيم : 52 ) ونظائره .
ومنها اعتضاده بسبب النزول ; كما في قوله تعالى :
إذا قمتم إلى الصلاة ( المائدة : 6 ) فإنه لا بد فيه من تقدير ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم : أي : قمتم من المضاجع ، يعني النوم .
وقال غيره : إنما يعني إذا قمتم محدثين .
واحتج
لزيد بأن هذه الآية إنما نزلت بسبب فقدان
عائشة رضي الله عنها عقدها ، فأخروا الرحيل إلى أن أضاء الصبح ، فطلبوا الماء عند قيامهم من نومهم ، فلم يجدوه ، فأنزل الله هذه الآية .
وبما رجح من طريق النظر بأن الأحداث المذكورة بعد قوله :
إذا قمتم ( المائدة : 6 ) الأولى أن يحمل قوله :
إذا قمتم معنى غير الحدث ; لما فيه من زيادة الفائدة ، فتكون الآية جامعة للحدث ولسبب الحدث ، فإن النوم ليس بحدث بل سبب للحدث .