السابع : الحذف المقابلي : وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، فيحذف من واحد منهما مقابلة ; لدلالة الآخر عليه ، كقوله تعالى :
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون ( هود : 35 ) الأصل : فإن افتريته فعلي إجرامي ، وأنتم برآء منه ، وعليكم إجرامكم ، وأنا بريء مما تجرمون .
فنسبة قوله تعالى : " إجرامي " وهو الأول إلى قوله : " وعليكم إجرامكم " وهو الثالث ، كنسبة قوله : " وأنتم برآء منه " وهو الثاني ، إلى قوله تعالى :
وأنا بريء مما تجرمون ( هود : 35 ) ، وهو الرابع ، واكتفى من كل متناسبين بأحدهما .
[ ص: 201 ] ومنه قوله تعالى :
فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ( الأنبياء : 5 ) تقديره : إن أرسل فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ، فأتوا بآية .
وقوله تعالى :
ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ( الأحزاب : 24 ) تقديره كما قال المفسرون : " ويعذب المنافقين إن شاء فلا يتوب عليهم ، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم " عند ذلك يكون مطلق قوله : فلا يتوب عليهم أو يتوب عليهم مقيدا بمدة الحياة الدنيا .
وقوله تعالى :
فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ( البقرة : 222 ) فتقديره : لا تقربوهن حتى يطهرن ويطهرن ; فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن ، وهو قول مركب من أربعة أجزاء ; نسبة الأول إلى الثالث كنسبة الثاني إلى الرابع ; ويحذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه .
واعلم أن دلالة السياق قاطعة بهذه المحذوفات ; وبهذا التقدير يعتضد القول بالمنع من وطء الحائض إلا بعد الطهر والتطهر جميعا ; وهو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
ومنه قوله تعالى :
وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ( النمل : 12 ) تقديره : " أدخل يدك تدخل ، وأخرجها تخرج " إلا أنه قد عرض في هذه المادة تناسب بالطباق ; فلذلك بقي القانون فيه ، الذي هو نسبة الأول إلى الثالث ، ونسبة الثاني إلى الرابع ، على حالة الأكثرية ; فلم يتغير عن موضعه ; ولم يجعل بالنسبة التي بين الأول والثاني ، وبين الثالث والرابع ، وهي نسبة النظير ، كقوله :
[ ص: 202 ] وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
أي : هزة بعد انتفاضة ، كما انتفض العصفور بلله القطر ، ثم اهتز .
كذا قاله جماعة .
وأنكره
nindex.php?page=showalam&ids=12779ابن الصائغ وقال : هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولو يكون لكان خلفا ، وإنما أحوجهم إليه أنهم رأوا أنه لا يلزم من إدخالها خروجها ، و " يخرج " مجزوم على الجواب ، فاحتاج أن تقدر جوابا لازما ، وشرطا ملزوما حذفا ; لأنهما نظير ما ثبت ; لكن وقع في تقدير ما لا يفيد ; لأنه معلوم أنه إن أدخلها تدخل ، لكنه قد يقدره تقديرا بعيدا ، وهو : " أدخلها تدخل كما هي ، وأخرجها تخرج بيضاء " وهو بعد ذلك ضعيف ، فيقال له : لا يلزم في الشرط وجوابه أن يكون اللزوم بينهما ضروريا بالفعل ، فإذا قيل : إن جاءني زيد أكرمته ، فهذا اللازم بالوضع ، وليس بالضرورة ، والإكرام لازم للمجيء ، بل لوضع المتكلم فالموضوع هنا أن الإدخال سبب في خروجها بيضاء بقدرة الله تعالى ; ألا ترى أنه لا يلزم من إخراجها أن تخرج بيضاء لزوما ضروريا إلا بضرورة صدق الوعد .
فإن قال : لم أرد هذا ; وإنما أردت أنها لا تخرج إلا حتى تخرج .
قيل : هذا من المعلوم الذي لا معنى للتنصيص عليه .
ومنه قوله تعالى :
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ( التوبة : 102 ) ، أصل الكلام : خلطوا عملا صالحا بسيئ ، وآخر سيئا بصالح ; لأن الخلط يستدعي مخلوطا ومخلوطا به ; أي : تارة أطاعوا وخلطوا الطاعة بكبيرة ، وتارة عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة .
[ ص: 203 ] وقوله :
فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي . . .
( طه : 123 ) الآية ، فإن مقتضى التقسيم اللفظي : من اتبع الهدى فلا خوف ولا حزن يلحقه ، وهو صاحب الجنة ، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن وهو صاحب النار ; فحذف من كل ما أثبت نظيره في الأخرى .
قيل : ومنه قوله تعالى :
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ( البقرة : 171 ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه في " باب استعمال الفعل في اللفظ لا في المعنى " : لم يشبهوا بالناعق وإنما شبهوا بالمنعوق به ; وإنما المعنى : " ومثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع إلا دعاء ; ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى .
انتهى .
والذي أحوجه إلى هذا التقدير أنه لما شبه الذين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا بناه على أن الناعق بمعنى الداعي ; وليس بمتعين ; لجواز ألا يراد به الداعي ; بل الناعق من الحيوان شبههم في تألفهم وتأتيهم بما ينعق من الغنم بصاحبه ; من أنهم يدعون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ما يريده ، فيكون ثم حذف .
وقيل : ليس من هذا النوع إلا الاكتفاء من الأول بالثالث ; لنسبة بينهما ، وذلك أنه اكتفى بالذي ينعق - وهو الثالث المشبه به - عن المشبه ، وهو الكناية المضاف إليها في قوله : ومثلك ، وهو الأول وأقرب إلى هذا التشبيه المركب والمقابلة ، وهو الذي غلط من وضعه في هذا النوع ، وإنما هو من نوع الاكتفاء للارتباط العطفي على ما سلف .
وقد قال
الصفار : هذا الذي صار إليه
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه - من أنه حذف من الأول المعطوف عليه ، ومن الثاني المعطوف - ضعيف لا ينبغي أن يصار إليه إلا عند الضرورة ; لأن فيه حذفا كثيرا مع إبقاء حرف
[ ص: 204 ] العطف وهو الواو ، ألا ترى أن ما قبلها مستأنف ، والأصل " مثلك ومثلهم " ، إلا أن يدعي أن الأصل " ومثلك ومثلهم " ثم حذف " مثلك " والواو التي عطفت ما بعدها ، وبقيت الواو الأولى ; ويزعم أن الكلام ربط مع ما قبله بالواو ; وليس بينهما ارتباط .
وفيه ما ترى .
وقال
ابن الحجاج : عندي أنه لا حذف في الآية ، والقصد تشبيه الكفار في عبادتهم الأصنام بالذي ينعق بما لا يسمع ، فهو تمثيل داع بداع محقق لا حذف فيه ، والكفار على هذا داعون وعلى التأويل الأول مدعوون .
ونظيرها قوله تعالى :
أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ( الملك : 22 ) فإن فيه جملتين ; حذف نصف كل واحدة منهما اكتفاء بنصف الأخرى ، وأصل الكلام : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي سويا على صراط مستقيم ، أمن يمشي سويا على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا .
وإنما قلنا : إن أصله هكذا ; لأن أفعل التفضيل لا بد في معناه من المفضل عليه ، وهاهنا وقع السؤال عمن في نفس الأمر : هل هذا أهدى من ذلك أم ذاك أهدى من هذا ؟ فلا بد من ملاحظة أربعة أمور ، وليس في الآية إلا نصف إحدى الجملتين ونصف الأخرى ، والذي حذف من هذه مذكور في تلك ، والذي حذف من تلك
[ ص: 205 ] مذكور في هذه ، فحصل المقصود مع الإيجاز والفصاحة ، ثم ترك أمر آخر لم يتعرض له ; وهو الجواب الصحيح لهذين الاستفهامين ، وأيهما هو الأهدى ، لم يذكره في الآية أصلا ; اعتمادا على أن العقل يقول : الذي يمشي على صراط مستقيم أهدى ممن يمشي مكبا على وجهه .
وهذا كقوله تعالى :
أفمن يخلق كمن لا يخلق ( النحل : 17 ) وقوله :
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر : 9 ) فائدة قد يحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وقد يعكس ، وقد يحتمل اللفظ الأمرين .
فالأول كقوله تعالى :
إن الله وملائكته يصلون على النبي ( الأحزاب : 56 ) في قراءة من رفع " ملائكته " ، أي : إن الله يصلي ، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، وليس عطفا عليه .
والثاني كقوله :
يمحوا الله ما يشاء ويثبت ( الرعد : 39 ) أي : ما يشاء .
وقوله :
أن الله بريء من المشركين ورسوله ( التوبة : 3 ) أي : بريء أيضا .
وقوله :
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( إبراهيم : 48 ) .
وقوله :
واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ( الطلاق : 4 ) أي : كذلك .
[ ص: 206 ] وجعل منه
أبو الفتح قوله تعالى :
أسمع بهم وأبصر ( مريم : 38 ) التقدير : وأبصر بهم ، لكنه حذف لدلالة ما قبله عليه ، حيث كان بلفظ الفضلة ; وإن كان ممتنعا في الفاعل ، وهذا التوجيه إنما يتم إذا قلنا : إن الجار والمجرور في أسمع بهم وأبصر في محل الرفع ، فإن قلنا : في محل النصب فلا .
وقوله تعالى :
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ( الزمر : 38 ) والتقدير : خلقهن الله ، فحذف " خلقهن " لقرينة تقدمت في السؤال .
وقوله :
سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين ( الصافات : 109 - 110 ) ، ولم يقل : " إنا كذلك " اختيارا واستغناء عنه بقوله فيما سبق :
إنا كذلك ( الصافات : 105 ) .
والثالث كقوله تعالى :
والله ورسوله أحق أن يرضوه ( التوبة : 62 ) فقد قيل : إن " أحق " خبر عن اسم الله تعالى ، وقيل : بالعكس .
وأما قوله تعالى :
وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ( النساء : 140 ) فالفائدة في إعادة الجار والمجرور أعني " بها " ; لأنه لو حذف من الثاني لم يحصل الربط ; لوجوب الضمير فيما وقع مفعولا ثانيا أو كالمفعول الثاني لـ " سمعتم " ، ولو حذف من الأول لم يكن نصا على أن الكفر يتعلق بالإثبات ; لجواز أن يكون متعلق الأول غير متعلق الثاني .