الرابع
بالرتبة
كتقديم " سميع " على " عليم " فإنه يقتضي التخويف والتهديد ، فبدأ بالسميع لتعلقه بالأصوات ، وإن من سمع حسك فقد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم ، وإن كان علم الله يتعلق بما ظهر وما بطن .
وكقوله :
غفور رحيم ( البقرة : 173 ) فإن المغفرة سلامة ، والرحمة غنيمة ، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة ، وإنما تأخرت في آية سبأ في قوله :
الرحيم الغفور ( سبأ : 2 ) لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم ، وهو قوله :
ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ( سبأ : 2 ) فالرحمة شملتهم جميعا ، والمغفرة تخص بعضا ، والعموم قبل الخصوص بالرتبة .
وقوله تعالى :
هماز مشاء بنميم ( القلم : 11 ) فإن الهماز هو المغتاب ؛ وذلك لا يفتقر إلى شيء بخلاف النميمة .
وقوله تعالى :
يأتوك رجالا وعلى كل ضامر ( الحج : 27 ) فإن الغالب أن الذين يأتون رجالا من مكان قريب ، والذين يأتون على الضامر من البعيد . ويحتمل أن
[ ص: 320 ] يكون من التقديم بالشرف ؛ لأن الأجر في المشي مضاعف .
وأما قوله تعالى :
فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ( البقرة : 239 ) مع أن الراكب متمكن من الصلاة أكثر من الماشي ، فجبرا له في باب الرخصة .
ومنه قوله تعالى :
وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ( الحج : 26 ) فقدم الطائفين لقربهم من البيت ، ثم ثنى بالقائمين وهم العاكفون ؛ لأنهم يخصون موضعا بالعكوف ، والطواف بخلافه فكان أعم منه ، والأعم قبل الأخص بالمرتبة ، ثم ثلث بالركوع ؛ لأن الركوع لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده .
ثم في هذه الآية ثلاثة أسئلة :
الأول : كيف جمع الطائفين والقائمين جمع سلامة ، والركع جمع تكسير . والجواب : أن جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل ؛ فـ ( طائفون ) بمنزلة ( يطوفون ) ففي لفظه إشعار بصلة التطهير ، وهو حدوث الطواف وتجدده ، ولو قال : ( بالطواف ) لم يفد ذلك ؛ لأن لفظ المصدر يخفي ذلك ، وكذا القول في ( القائمين ) وأما ( الراكعون ) فلما سبق أنه لا يلزم كونه في البيت ولا عنده ، فلهذا لم يجمع جمع سلامة ؛ إذ لا يحتاج فيه إلى بيان الفعل الباعث على التطهير كما احتيج فيما قبله .
الثاني : كيف وصف الركع بالسجود ، ولم يعطف بالواو ؟
والجواب : لأن الركع هم السجود ، والشيء لا يعطف على نفسه ؛ لأن السجود يكون عبارة عن المصدر ، وهو هنا عبارة عن الجمع ، فلو عطف بالواو لأوهم إرادة المصدر دون اسم
[ ص: 321 ] الفاعل ؛ لأن الراكع إن لم يسجد فليس براكع شرعا ، ولو عطف بالواو لأوهم أنه مستقل ، كالذي قبله .
الثالث : هلا قيل : ( السجد ) كما قيل : ( الركع ) وكما جاء في آية أخرى :
تراهم ركعا سجدا ( الفتح : 29 ) والركوع قبل السجود ؟ والجواب أن السجود يطلق على وضع الجبهة بالأرض وعلى الخشوع ، فلو قال : السجد ، لم يتناول إلا المعنى الظاهر ، ومنه :
تراهم ركعا سجدا ( الفتح : 29 ) وهو من رؤية العين ، ورؤية العين لا تتعلق إلا بالظاهر ، فقصد بذلك الرمز إلى السجود المعنوي والصوري ، بخلاف الركوع ، فإنه ظاهر في أعمال الظاهر التي يشترط فيها البيت كما في الطواف والقيام المتقدم ، دون أعمال القلب ، فجعل السجود وصفا للركوع وتتميما له ؛ لأن الخشوع روح الصلاة وسرها الذي شرعت له .