السابع
الشرف وهو أنواع
منها شرف الرسالة ؛ كقوله تعالى :
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ( الحج : 52 ) فإن الرسول أفضل من النبي ؛ خلافا
لابن عبد السلام .
وقوله :
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ( الأعراف : 157 ) وقوله :
وكان رسولا نبيا ( مريم : 54 ) ومنها شرف الذكورة .
كقوله تعالى :
إن المسلمين والمسلمات ( الأحزاب : 35 ) .
وقوله :
ألكم الذكر وله الأنثى ( النجم : 21 ) .
وقوله :
رجالا كثيرا ونساء ( النساء : 1 ) .
وأما تقديم الإناث في قوله تعالى :
يهب لمن يشاء إناثا ( الشورى : 49 ) فلجبرهن ؛ إذ هن موضع الانكسار ، ولهذا جبر الذكور بالتعريف ؛ للإشارة إلى ما فاتهم من فضيلة التقديم .
ويحتمل أن تقديم الإناث ؛ لأن المقصود بيان أن الخلق كله بمشيئة الله تعالى ، لا على وفق غرض العباد .
ومنها شرف الحرية ؛ كقوله تعالى :
الحر بالحر والعبد بالعبد ( البقرة : 178 ) ومن الغريب حكاية بعضهم قولين في أن الحر أشرف من العبد أم لا ، حكاه عنه
القرطبي في تفسير سورة النساء ، فلينظر فيه .
[ ص: 323 ] ومنها شرف العقل ؛ كقوله تعالى :
يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات ( النور : 41 ) .
وقوله :
متاعا لكم ولأنعامكم ( النازعات : 33 ) .
وأما تقديم الأنعام عليهم في قوله :
تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ( السجدة : 27 ) فمن باب تقديم السبب ، وقد سبق .
ومنها شرف الإيمان ؛ كقوله تعالى :
وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ( الأعراف : 87 ) وكذلك تقديم المسلمين على الكافرين في كل موضع ، والطائع على العاصي ،
وأصحاب اليمين ثم قال
وأصحاب الشمال ( الواقعة : 27 و 41 ) .
ومنها شرف العلم ؛ كقوله تعالى :
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( الزمر : 9 ) .
ومنها شرف الحياة ؛ كقوله تعالى :
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ( الروم : 19 ) .
وقوله :
وما يستوي الأحياء ولا الأموات ( فاطر : 22 ) وأما تقديم الموت في قوله تعالى :
الذي خلق الموت والحياة ( الملك : 2 ) فمن تقدم السبق بالوجود ، وقد سبق .
ومنها شرف المعلوم ؛ نحو :
عالم الغيب والشهادة ( المؤمنون : 92 ) فإن علم الغيبيات أشرف من المشاهدات .
ومنه
يعلم سركم وجهركم ( الأنعام : 3 )
ويعلم ما تسرون وما تعلنون ( التغابن : 4 ) وأما قوله :
فإنه يعلم السر وأخفى ( طه : 7 ) أي : من السر ، فعن
ابن [ ص: 324 ] عباس وغيره : السر : ما أسررت في نفسك ، وأخفى منه ما لم تحدث به نفسك مما يكون في غد ، علم الله فيهما سواء ، ولا شك أن الآتي أبلغ وفيه وجهان :
أحدهما : أنه أفعل تفضيل يستدعي مفضلا عليه ، علم حتى يتحقق في نفسه ، فيكون حينئذ تقديم السر من النوع الأول .
وثانيهما : مراعاة رءوس الآي .
ومنها شرف الإدراك ، كتقديم السمع على البصر ، والسميع على البصير ؛ لأن السمع أشرف على أرجح القولين عند جماعة ، وقدم القلب عليهما في قوله تعالى :
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ( البقرة : 7 ) لأن الحواس خدمة القلب ، وموصلة إليه ؛ وهو المقصود ، وأما قوله :
وختم على سمعه وقلبه ( الجاثية : 23 ) فأخر القلب فيها ؛ لأن العناية هناك بذم المتصامين عن السماع ؛ ومنهم الذين كانوا يجعلون القطن في آذانهم حتى لا يسمعوا ، ولهذا صدرت السورة بذكرهم ، في قوله :
ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها ( الجاثية : 7 - 8 ) .
ومنها شرف المجازاة ؛ كقوله :
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة ( الأنعام : 160 ) .
ومنها شرف العموم ؛ فإن العام أشرف من الخاص ، كتقديم ( العفو ) على ( الغفور ) أي : عفو عما لم يؤاخذنا به مما نستحقه بذنوبنا ، غفور لما واخذنا به في الدنيا ، قبلنا ورجعنا
[ ص: 325 ] إليه فتقدم العفو على الغفور ؛ لأنه أعم ، وأخرت المغفرة لأنها أخص .
ومنها شرف الإباحة للإذن بها ؛ كقوله تعالى :
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ( النحل : 116 ) وإنما تقدم الحرام في قوله :
فجعلتم منه حراما وحلالا ( يونس : 59 ) فللزيادة في التشنيع عليهم ، أو لأجل السياق ؛ لأن قبله :
فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ( النحل : 114 ) ثم
إنما حرم عليكم الميتة ( النحل : 115 ) .
ومنها الشرف بالفضيلة ، كقوله تعالى :
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ( النساء : 69 ) .
وقوله :
ومنك ومن نوح ( الأحزاب : 7 ) .
وقوله :
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ( الفتح : 29 ) الآية .
وقوله :
ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ( الأنبياء : 48 ) .
ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون ( يونس : 75 ) .
وقوله :
رب موسى وهارون ( الأعراف : 122 - الشعراء : 48 ) في الأعراف والشعراء ، فإن
موسى استأثر باصطفائه تعالى له بتكليمه ، وكونه من أولي العزم .
فإن قلت : فقد جاء :
هارون وموسى في سورة طه بتقديم
هارون .
قلنا : لتناسب رءوس الآي .
ومنه تقديم
جبريل على
ميكائيل في قوله تعالى :
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ( البقرة : 98 ) لأن
جبريل صاحب الوحي والعلم ،
وميكائيل صاحب الأرزاق ، والخيرات النفسانية أفضل من الخيرات الجسمانية .
ومنه تقديم ( المهاجرين ) في قوله تعالى :
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ( التوبة : 117 ) .
[ ص: 326 ] وقوله :
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ( التوبة : 100 ) ويدل على فضيلة الهجرة قوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018698لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار وبالآية احتج الصديق على تفضيلهم وتعيين الإمامة فيهم .
ومنه قوله :
صلوا عليه وسلموا تسليما ( الأحزاب : 56 ) فإن الصلاة أفضل من السلام .
وقوله :
وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ( البقرة : 177 ) قدم القريب لأن الصدقة عليه أفضل من الأجنبي .
ومنه تقديم الوجه في قوله تعالى :
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ( المائدة : 6 ) .
وتقديم اليمين على الشمال في نحو :
جنتان عن يمين وشمال ( سبأ : 15 )
عن اليمين وعن الشمال ( المعارج : 37 ) .
ومنه تقديم الأنفس على الأموال في قوله تعالى :
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ( التوبة : 111 ) وأما تقديم الأموال في سورة الأنفال في قوله :
وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ( الأنفال : 72 ) فوجه التقديم أن الجهاد يستدعي تقديم إنفاق الأموال ، فهو من باب السبق بالسببية .
ومنه
محلقين رءوسكم ومقصرين ( الفتح : 27 ) فإن الحلق أفضل من التقصير .
[ ص: 327 ] ومنه تقديم السماوات على الأرض كقوله :
خلق الله السماوات والأرض بالحق ( العنكبوت : 44 ) وهو كثير ، وكذلك كثيرا ما يقع " السماوات " بلفظ الجمع ، والأرض لم تقع إلا مفردة .
وأما تأخيرها عنها في قوله تعالى :
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ( يونس : 61 ) فلأنه لما ذكر المخاطبين وهو قوله :
ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ( يونس : 61 ) وهو خطاب لأهل الأرض ، وعملهم يكون في الأرض ، وهذا بخلاف الآية التي في سبأ ، فإنها منتظمة في سياق علم الغيب .
وكذلك قوله :
إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ( آل عمران : 5 ) .
وأما تأخيرها عنها في قوله :
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ( الزمر : 67 ) فلأن الآية في سياق الوعد والوعيد ، وإنما هو لأهل الأرض وعملهم يكون في الأرض ، وهذا بخلاف الآية .
قوله تعالى :
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( إبراهيم : 48 ) .
ومنه تقديم الإنس على الجن في قوله :
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( الإسراء : 88 ) الآية .
وقوله :
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( الرحمن : 39 ) .
وقوله :
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ( الرحمن : 56 ) .
وقوله :
وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ( الجن : 5 ) .
[ ص: 328 ] وقوله :
خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ( الرحمن : 14 - 15 ) .
وأما تقديم الجن في مواضع أخر ؛ كقوله :
يامعشر الجن والإنس ( الأنعام : 130 ) فلأنهم أقدم في الخلق ، فيكون من النوع الأول ، أعني التقديم بالزمان ، ولهذا لما أخر في آية الحجر صرح بالقبلية بذكر خلق الإنسان ، ثم قال :
والجان خلقناه من قبل ( الحجر : 27 ) .
ويجوز أن يكون في الأمثلة السالفة من باب تقديم الأعجب ؛ لأن خلقها أغرب ، كقوله تعالى :
فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ( النور : 45 ) .
أو لأنهم أقوى أجساما وأعظم أقداما ، ولهذا قدموا في :
يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ( الرحمن 33 ) وفي :
وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ( النمل : 17 ) .
ومنه تقديم السجد على الراكعين في قوله :
واسجدي واركعي مع الراكعين ( آل عمران : 43 ) وسبق فيه شيء آخر .
ومنه تقديم الخيل على البغال ، والبغال على الحمير ، في قوله تعالى :
والخيل والبغال والحمير لتركبوها ( النحل : 8 ) .
ومنه تقديم الذهب على الفضة في قوله :
والذين يكنزون الذهب والفضة ( التوبة : 34 ) .
[ ص: 329 ] فإن قلت : فهل يجوز فيه أن يكون من تقديم المذكر على المؤنث ؟
قلت : هيهات ، الذهب أيضا مؤنث ، ولهذا يصغر على " ذهيبة " كـ " قدم " .
ومنه تقديم الصوف في قوله :
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ( النحل : 80 ) ولهذا احتج به بعض
الصوفية على اختيار لبس الصوف على غيره من الملابس ، وأنه شعار الملائكة في قوله :
مسومين ( آل عمران : 125 ) قيل : سيماهم يومئذ الصوف ، وعن علي : الصوف الأبيض . رواه
أبو نعيم في كتاب " مدح الصوف " ، وقال : إنه شعار الأنبياء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : " كانت الأنبياء عليهم السلام قبلكم يلبسون الصوف " . وفي الصحيح
في موسى عليه السلام : عليه عباءة .
ومنه تقديم الشمس على القمر في قوله تعالى : والشمس والقمر ( الحج : 18 ) وقوله :
وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ( الفرقان : 61 ) ولهذا قال تعالى :
جعل الشمس ضياء والقمر نورا ( يونس : 5 ) والحكماء يقولون : إن نور القمر مستمد من نور الشمس ، قال الشاعر :
يا مفردا بالحسن والشكل من دل عينيك على قتلي البدر من شمس الضحى نوره
والشمس من نورك تستملي
وأما قوله تعالى :
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ( نوح : 15 - 16 ) فيحتمل وجهين : مناسبة رءوس الآي ، أو أن
[ ص: 330 ] انتفاع أهل السماوات به أكثر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري يقال : إن القمر وجهه يضيء لأهل السماء ، وظهره إلى الأرض ، ولهذا قال تعالى : فيهن لما كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء .