التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وعكسه
قد سبق منه كثير في نوع الالتفات ؛ ويغلب ذلك فيما إذا كان مدلول الفعل من الأمور الهائلة المهددة المتوعد بها ، فيعدل فيه إلى لفظ الماضي تقريرا وتحقيقا لوقوعه ، كقوله تعالى :
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ( النمل : 87 ) .
وقوله في الزمر :
ونفخ في الصور فصعق ( الزمر : 68 ) .
وقوله :
وبرزوا لله جميعا ( إبراهيم : 21 ) .
وقوله :
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم ( الكهف : 47 ) أي : نحشرهم .
وقوله :
ونادى أصحاب الأعراف رجالا ( الأعراف : 48 ) ثم تارة
يجعل المتوقع فيه كالواقع ، فيؤتى بصيغة الماضي مرادا به المضي ؛ تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع ، فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضي ، بل جعل المستقبل ماضيا مبالغة .
ومنه :
أتى أمر الله فلا تستعجلوه ( النحل : 1 )
ونادى أصحاب الجنة ( الأعراف : 44 ) ونحوه .
وقد
يعبر عن المستقبل بالماضي مرادا به المستقبل ؛ فهو مجاز لفظي ، كقوله تعالى :
ويوم ينفخ في الصور ففزع ( النمل : 87 ) فإنه لا يمكن أن يراد به المضي ، لمنافاة
[ ص: 432 ] ( ينفخ ) الذي هو مستقبل في الواقع ،
وفائدة التعبير عنه بالماضي الإشارة إلى استحضار التحقق ، وإنه من شأنه لتحققه أن يعبر عنه بالماضي ، وإن لم يرد معناه ، والفرق بينهما أن الأول مجاز ، والثاني لا مجاز فيه إلا من جهة اللفظ فقط .
وقوله :
وإذ قال الله ياعيسى ( المائدة : 116 ) أي : يقول . عكسه لأن المضارع يراد به الديمومة والاستمرار ، كقوله تعالى :
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ( البقرة : 44 ) .
وقوله :
ثم قال له كن فيكون ( آل عمران : 59 ) أي : فكان . استحضارا لصورة تكونه .
وقوله :
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ( البقرة : 102 ) أي : ما تلت .
وقوله تعالى : ولقد نعلم ( الحجر : 97 ) أي : علمنا .
فإن قيل : كيف يتصور التقليل في علم الله ؟
قيل : المراد أنهم أقل معلوماته ، ولأن المضارع هنا بمعنى الماضي ، فـ " قد " فيه للتحقيق لا التقليل .
وقوله :
فلم تقتلون أنبياء الله ( البقرة : 91 ) أي : فلم قتلتم .
وقوله :
حتى تأتيهم البينة ( البينة : 1 ) أي : لم يتعارفوا حتى تأتيهم .
وقوله : منفكين ( البينة : 1 ) قال
مجاهد : " منتهين " ، وقيل : زائلين من الدنيا .
وقال
الأزهري : ليس هو من باب " ما انفك " و " ما زال " ، إنما هو من انفكاك الشيء : إذا انفصل عنه .
[ ص: 433 ] وقوله :
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ( المائدة : 18 ) المعنى : فلم عذب آباءكم بالمسخ والقتل ؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بأن يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد ؛ لأن الجاحد يقول : إني لا أعذب ، لكن احتج عليهم بما قد كان .
وقوله :
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة ( الحج : 63 ) فعدل عن لفظ " أصبحت " إلى " تصبح " قصدا للمبالغة في تحقيق اخضرار الأرض لأهميته إذ هو المقصود بالإنزال .
فإن قلت : كيف قال النحاة : إنه يجب
نصب الفعل المقرون بالفاء إذا وقع في جواب الاستفهام كقوله تعالى :
فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ( الأعراف : 53 ) و " فتصبح " هنا مرفوع .
قلت : لوجوه :
أحدها : أن شرط الفاء المقتضية للنصب أن تكون سببية ، وهنا ليست كذلك ، بل هي للاستئناف ؛ لأن الرؤية ليست سببا للإصباح .
الثاني : أن شرط النصب أن ينسبك من الفاء وما قبلها شرط وجزاء ، وهنا ليس كذلك ؛ لأنه لو قيل : إن تر أن الله أنزل ماء تصبح ؛ لم يصح ؛ لأن إصباح الأرض حاصل سواء رئي أم لا .
فإن قيل : شاع في كلامهم إلغاء فعل الرؤية ، كما في قوله : ولا تزال - تراها - ظالمة ، أي : ولا تزال ظالمة ، وحينئذ فالمعنى منصب إلى الإنزال لا إلى الرؤية ؛ ولا شك أنه يصح أن يقال : " إن أنزل تصبح " فقد انعقد الشرط والجزاء .
[ ص: 434 ] قلت : إلغاء فعل الرؤية في كلامهم جائز لا واجب ؛ فمن أين لنا ما يقتضي تعيين حمل الآية عليه ؟
الثالث : إن همزة الاستفهام إذا دخلت على موجب تقلبه إلى النفي ، كقوله تعالى :
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ( المائدة : 116 ) وإذا دخلت على نفي تقلبه إلى الإيجاب ، فالهمزة في الآية للتقرير ، فلما انتقل الكلام من النفي إلى الإيجاب لم ينتصب الفعل ؛ لأن شرط النفي كون السابق منفيا محضا ، ذكره
العزيزي في " البرهان " .
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة السجدة :
أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا ( السجدة : 27 ) .
الرابع : " أنه لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ؛ لأن معناه إثبات الاخضرار ، فكان ينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار ، مثاله أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت فتشكر ! إن نصبت فأنت ناف لشكره ، شاك تفريطه ، وإن رفعت فأنت مثبت لشكره . ذكر هذا
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في " الكشاف " قال : وهذا ومثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب وتوقير أهله " .
وقال
ابن الخباز : النصب يفسد المعنى ؛ لأن رؤية المخاطب الماء الذي أنزله الله ليس سببا للاخضرار ؛ وإنما الماء نفسه هو سبب الاخضرار .
ومنه قوله تعالى :
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت ( فاطر : 9 ) .
فقال : " تثير " مضارعا ، وما قبله وما بعده ماضيا ؛ مبالغة في تحقيق إثارة الرياح السحاب للسامعين وتقدير تصوره في أذهانهم .
[ ص: 435 ] فإن قيل : أهم الأفعال المذكورة في الآية إحياء الموتى ، وقد ذكر بلفظ الماضي ، وما ذكرته يقتضي أولوية ذكره بلفظ المضارع ، إذ هو أهم ، وإثارة السحاب سبب أعيد على قريب .
قيل : لا نسلم بأهمية إحياء الأرض بعد موتها ، فالمقدمات المذكورة أهمها وأدلها على القدرة أعجبها وأبعدها عن قدرة البشر ، وإثارة السحاب أعجبها ، فكان أولى بالتخصيص بالمضارع ، وإنما قال : إن إثارة السحاب أعجب ؛ لأن سببها أخفى من حيث أنا نعلم بالفعل أن نزول الماء سبب في اخضرار الأرض ، وإثارة السحاب وسوقه سبب نزول الماء ، فلو خلينا وظاهر العقل لم نعلم أن الرياح سببها ؛ لعدم إحساسنا بمادة السحاب وجهته ، ولطافة الريح عن إدراك الحس .
ومن لواحق ذلك العدول عن المستقبل إلى اسم المفعول ؛ لتضمنه معنى الماضي ، كقوله تعالى :
ذلك يوم مجموع له الناس ( هود : 103 ) تقريرا للجمع فيه ، وأنه لا بد أن يكون معادا للناس مضروبا لجميعهم ، وإن شئت فوازن بينه وبين قوله :
يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ( التغابن : 9 ) لتعرف صحة هذا المعنى .
فإن قلت : الماضي أدل على هذا المقصود من اسم المفعول ، فلم عدل عنه إلى ما دلالته أضعف ؟ قلت : لتحصل المناسبة بين " مجموع " و " مشهود " في استواء شأنهما طلبا للتعديل في العبارة .
ومنه العدول عن المستقبل إلى اسم الفاعل ، كقوله تعالى :
وإن الدين لواقع ( الذاريات : 6 ) فإن اسم الفاعل ليس حقيقة في الاستقبال ، بل في الحال .