نفي الشيء رأسا
لأنه عدم كمال وصفه أو لانتفاء ثمرته ، كقوله تعالى في صفة أهل النار :
لا يموت فيها ولا يحيا ( طه : 74 )
[ ص: 451 ] فنفى عنه الموت لأنه ليس بموت صريح ، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة ؛ كقوله تعالى :
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ( الحج : 2 ) أي : ما هم بسكارى مشروب ، ولكن سكارى فزع .
وقوله :
لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( المرسلات : 35 - 36 ) وهم قد نطقوا بقولهم :
ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ( الأنعام : 27 ) ولكنهم لما نطقوا بما لم ينفع فكأنهم لم ينطقوا .
وقوله :
لهم قلوب لا يفقهون بها ( الأعراف : 179 ) .
وقوله :
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ( الملك : 10 ) .
ومنه قوله :
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ( الأعراف : 198 ) فإن
المعتزلة احتجوا به على نفي الرؤية ؛ لأن النظر لا يستلزم الإبصار ، ولا يلزم من قوله :
إلى ربها ناظرة ( القيامة : 23 ) إبصار .
وهذا وهم ؛ لأن الرؤية تقال على أمرين : أحدهما الحسبان ، والثاني العلم ، والآية من المعنى الأول ؛ أي : تحسبهم ينظرون إليك ؛ لأن لهم أعينا مصنوعة بأجفانها وسوادها ، يحسب الإنسان أنها تنظر إليه بإقبالها عليه ، وليست تبصر شيئا .
ومنه :
فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ( التوبة : 12 ) .
ومنه قوله تعالى :
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ( البقرة : 102 ) فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه أخيرا عنهم ؛ لعدم جريهم على موجب العلم ، كذا قاله
السكاكي وغيره .
وقد يقال : لم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد ؛ لأن المثبت أولا نفس العلم ، والمنفي إجراء العمل بمقتضاه ، ويحتمل حذف المفعولين أو اختلاف أصحاب الضميرين .
[ ص: 452 ] قال : ونظيره في النفي والإثبات قوله :
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ( الأنفال : 17 ) .
قلت : المنفي أولا التأثير ، والمثبت ثانيا نفس الفعل .
ومن هذه القاعدة يزول الإشكال في قوله :
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) والمعنى : إن لم تفعل بمقتضى ما بلغت فأنت في حكم غير المبلغ ، كقولك لطالب العلم : إن لم تعمل بما علمت فأنت لم تعلم شيئا أي : في حكم من لم يعلم .
ومنه نفي الشيء مقيدا ، والمراد نفيه مطلقا ، وهذا من أساليب العرب يقصدون به المبالغة في النفي وتأكيده ، كقولهم : فلان لا يرجى خيره ، ليس المراد أن فيه خيرا لا يرجى ، غرضهم أنه لا خير فيه على وجه من الوجوه .
ومنه :
ويقتلون النبيين بغير حق ( آل عمران : 21 ) فإنه يدل على أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق ، ثم وصف القتل بما لا بد أن يكون عليه من الصفة ، وهي وقوعه على خلاف الحق .
وكذلك قوله :
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ( المؤمنون : 117 ) إنها وصف لهذا الدعاء ، وأنه لا يكون إلا عن غير برهان .
وقوله :
ولا تكونوا أول كافر به ( البقرة : 41 ) تغليظ وتأكيد في تحذيرهم الكفر .
وقوله :
ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ( البقرة : 41 ) لأن كل ثمن لها لا يكون إلا قليلا ، فصار نفي الثمن القليل نفيا لكل ثمن .
وقوله تعالى :
لا يسألون الناس إلحافا ( البقرة : 273 ) فإن ظاهره نفي الإلحاف في المسألة ، والحقيقة نفي المسألة البتة ؛ وعليه أكثر المفسرين بدليل قوله :
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ( البقرة : 273 ) ومن لا يسأل لا يلحف قطعا ، ضرورة أن
نفي الأعم يستلزم نفي الأخص .
[ ص: 453 ] ومثله قوله :
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ( غافر : 18 ) ليس المراد نفي الشفيع بقيد الطاعة ، بل نفيه مطلقا ، وإنما قيده بذلك لوجوه :
أحدها : أنه تنكيل بالكفار ؛ لأن أحدا لا يشفع إلا بإذنه ، وإذا شفع يشفع ، لكن الشفاعة مختصة بالمؤمنين ، فكان نفي الشفيع المطاع تنبيها على حصوله لأضدادهم ؛ كقولك لمن يناظر شخصا ذا صديق نافع : لقد حدثت صديقا نافعا ، وإنما تريد التنويه بما حصل لغيره ؛ لأن له صديقا ولم ينفع .
الثاني : أن الوصف اللازم للموصوف ليس بلازم أن يكون للتقييد ؛ بل يدل لأغراض من تحسينه أو تقبيحه ، نحو : له مال يتمتع به ، وقوله تعالى :
وما آتيناهم من كتب يدرسونها ( سبأ : 44 )
ولهم عذاب أليم ( البقرة : 174 ) .
الثالث : قد يكون الشفيع غير مطاع في بعض الشفاعات ، وقد ورد في بعض الحديث ما يوهم صورة الشفاعة من غير إجابة ؛ كحديث الخليل مع والده يوم القيامة ، وإنما دل على التلازم دليل الشرع .
وقوله :
ولم يكن له ولي من الذل ( الإسراء : 111 ) أي : من خوف الذل ، فنفي الولي لانتفاء خوف الذل ؛ فإن اتخاذ الولي فرع عن خوف الذل وسبب عنه .
وقوله تعالى :
لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) نفي الغلبة ؛ والمراد نفي أصل النوم والسنة عن ذاته ، ففي الآية التصريح بنفي النوم وقوعا وجوازا ، أما
[ ص: 454 ] وقوعا فبقوله :
لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) وأما جوازا فبقوله : ( القيوم ) وقد جمعهما قوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018707إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام .
وقوله :
قل أتنبئون الله بما لا يعلم ( يونس : 18 ) أي : بما لا وجود له ؛ لأنه لو وجد لعلمه موجودا لوجوب تعلق علم الله تعالى بكل معلوم .
وقوله تعالى :
لن تقبل توبتهم ( آل عمران : 90 ) على قول من نفى القبول لانتفاء سببه وهو التوبة ، لا يوجد توبة فيوجد قبول .
وعكسه :
وما وجدنا لأكثرهم من عهد ( الأعراف : 102 ) فإنه نفي لوجدان العهد لانتفاء سببه ، وهو الوفاء بالعهد .
وقوله :
ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( يوسف : 40 ) أي : من حجة ، أي لا حجة عليها ، فيستحيل إذن أن ينزل بها حجة . ونظيره من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1018708الدجال أعور ، والله ليس بأعور أي : بذي جوارح كوامل بتخيل له أن له جوارح نواقص .
ونظيره قوله تعالى :
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ( الكهف : 109 ) ليس المراد أن كلمات الله تنفد بعد نفاد البحر ، بل لا تنفد أبدا لا قبل نفاد البحر ولا بعده ، وحاصل الكلام : لنفد البحر ولا تنفد كلمات ربي .
ووقع في شعر
جرير قوله :
[ ص: 455 ] فيا لك يوما خيره قبل شره تغيب واشيه وأقصر عاذله
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : أنشدته كذلك
لخلف الأحمر فقال : أصلحه :
فيا لك يوما خيره دون شره فإنه لا خير لخير بعده شر ، وما زال العلماء يصلحون أشعار العرب ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : فقلت : والله لا أرويه أبدا إلا كما أوصيتني .
نقل
ابن رشيق هذه الحكاية في العمدة وصوبها .
[ ص: 456 ] قال
ابن المنير : ووقع لي أن
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي وخلفا الأحمر وابن رشيق أخطئوا جميعا وأصاب
جرير وحده ؛ لأنه لم يرد إلا " فيا لك يوم خير لا شر فيه " وأطلق " قبل " للنفي كما قلناها في قوله تعالى :
لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ( الكهف : 109 ) وقوله تعالى :
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ( الرعد : 2 ) وقوله :
أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ( الأعراف : 195 ) فإن ظاهره نفي هذه الجوارح ، والحقيقة توجب نفي الآية عمن يكون له فضلا عمن لا يكون له .
وقوله :
وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم ( لقمان : 15 ) فالمراد : لا ذاك ولا علمك به ، أي : كلاهما غير ثابت .
وقوله :
بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ( آل عمران : 151 ) أي : شركاء لا
[ ص: 457 ] ثبوت لها أصلا ، ولا أنزل الله بإشراكها حجة . أي تلك ، وإنزال الحجة كلاهما منتف .
وقوله :
أتنبئون الله بما لا يعلم ( يونس : 18 ) أي : ما لا ثبوت له ولا علم الله متعلقا به ، نفيا للملزوم وهو النيابة بنفي لازمه ، وهو وجوب كونه معلوما للعالم بالذات ، لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان .
وقوله :
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ( آل عمران : 90 ) أصله : لن يتوبوا فلن يكون لهم قبول توبة ، فأوثر الإلحاق ذهابا إلى انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم وهو قبول التوبة الواجب في حكمه تعالى وتقدس .
وقوله :
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ( النور : 33 ) ومعلوم أنه لا إكراه على الفاحشة لمن لا يريد تحصنا ؛ لأنها نزلت فيمن يفعل ذلك .
ونظيره :
لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ( آل عمران : 130 ) وأكل الربا منهي عنه قليلا وكثيرا ، لكنها نزلت على سبب وهو فعلهم ذلك ، ولأنه مقام تشنيع عليهم ، وهو بالكثير أليق .
وقوله :
فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . . . الآية ، المعنى : آمنا بالله دون الأصنام وسائر ما يدعى إليه دونها ، إلا أنهم نفوا الإيمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة والدار الآخرة والأحكام الشرعية ، ولهذا إنه لما رد بقوله :
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ( غافر : 85 ) بعد إثباته إيمانهم ؛ لأنه ضروري لا اختياري أوجب ألا يكون الكلام مسوقا لنفي أمور يراعى فيها الحصر والتقييد ؛ كقوله :
قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ( الملك : 29 ) فإنه لم يقدم المفعول في " آمنا " حيث لم يرد ذلك المعنى ، فركب تركيبا يوهم إفراد الإيمان بالرحمن عن سائر ما يلزم من الإيمان .
[ ص: 458 ] وقوله تعالى :
يتكبرون في الأرض بغير الحق ( الأعراف : 33 ) فقيل من هذا الباب فهي صفة لازمة ، وقيل : التكبر قد يكون بحق ، وهو التنزه عن الفواحش والدنايا ، والتباعد من فعلها .
وأما قوله :
والإثم والبغي بغير الحق ( الأعراف : 33 ) فإن أريد بالبغي الظلم كان قوله : ( بغير الحق ) تأكيدا ، وإن أريد به الطلب كان قيدا .