البحث السادس
ينتظم قواعد تتعلق بالتشبيه
الأولى
قد تشبه أشياء بأشياء ثم تارة يصرح بذكر المشبهات ، كقوله تعالى :
وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ( غافر : 58 ) وتارة لا يصرح به بل يجيء مطويا على سنن الاستعارة ؛ كقوله :
وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ( فاطر : 12 )
ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ( الزمر : 29 ) الآية .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : والذي عليه علماء البيان أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة لا المفرقة ؛ بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى فتشبهها بنظائرها كما ذكرنا وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء تضامت حتى صارت شيئا واحدا بأخرى ، كقوله تعالى :
مثل الذين حملوا التوراة ( الجمعة : 5 ) الآية .
ونظائره من حيث اجتمعت تشبيهات ؛ كما في تمثيل الله حال المنافقين أول سورة البقرة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وأبلغه الثاني ؛ لأنه أدل على فرط الحيرة ، وشدة الأمر وفظاعته ؛ ولذلك أخر ، قال : وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ .
الثانية : أعلى مراتب التشبيه في الأبلغية
ترك وجه الشبه وأداته ، نحو : زيد أسد ، أما ترك وجهه وحده فكقوله : زيد كالأسد ، وأما ترك أداته وحدها فكقوله : زيد الأسد شدة .
[ ص: 476 ] وفي كلام صاحب " المفتاح " إشارة إلى أن ترك وجه الشبه أبلغ من ترك أداته ؛ قال : لعموم وجه الشبه .
وخالفه صاحب " ضوء المصباح " ؛ لأنه إذا عم واحتمل التعدد ، ولم تبق دلالته على ما به الاشتراك دلالة منطوق بل دلالة مفهوم ؛ فيحتمل أن يكون ما به الاشتراك صفة ذم لا مدح ، وهو غير لازم في ترك الأداة ، إلا أن يقال : يلزم مثله من تركها ؛ لأن قرينة ترك الأداة تصرف إرادة المدح دون الذم .
وذكرهما كقولك : زيد كالأسد شدة .
الثالثة :
قد تدخل الأداة على شيء وليس هو عين المشبه ، ولكنه ملتبس به ، واعتمد على فهم المخاطب ، كما قال تعالى :
كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم ( الصف : 14 ) الآية ، المراد : كونوا أنصارا لله خالصين في الانقياد ؛ كشأن مخاطبي
عيسى إذ قالوا .
ومما دل على السياق قوله تعالى :
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة ( الأعراف : 171 ) وفيه زيادة ، وهو تشبيه الخارق بالمعتاد .
الرابعة : إذا كانت فائدته إنما هي
تقريب الشبه في فهم السامع وإيضاحه له ، فحقه أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم ، والقصد التنبيه بالأدنى على الأعلى ، مثل قياس النحوي ؛ ولا سيما إذا كان الدنو جدا أو العلو جدا ، وعليه بنى
nindex.php?page=showalam&ids=11880المعري قوله :
ظلمناك في تشبيه صدغيك بالمسك وقاعدة التشبيه نقصان ما يحكى
وقول آخر :
[ ص: 477 ] كالبحر والكاف أنى ضفت زائدة فيه فلا تظننها كاف تشبيه
وأما قوله تعالى :
مثل نوره كمشكاة ( النور : 35 ) فيمكن أن يكون المشبه به أقوى ؛ لكونه في الذهن أوضح ؛ إذ الإحاطة به أتم .
وأما قوله تعالى :
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ( آل عمران : 59 ) فهو من
تشبيه الغريب بالأغرب ؛ لأن خلق
آدم أغرب من خلق
عيسى ؛ ليكون أقطع للخصم ، وأوقع في النفس ، وفيه دليل على جواز القياس ، وهو رد فرع إلى أصل لشبه ما ؛ لأن
عيسى رد إلى
آدم لشبه بينهما ، والمعنى أن
آدم خلق من تراب ، ولم يكن له أب ولا أم ، فكذلك خلق
عيسى من غير أب .
وقوله :
كأنهم خشب مسندة ( المنافقون : 4 ) شبههم بالخشب ؛ لأنه لا روح فيها ، وبالمسندة ؛ لأنه لا انتفاع بالخشب في حال تسنيده .
الخامسة : الأصل
دخول أداة التشبيه على المشبه به ، وهو الكامل ، كقولك : ليس الفضة كالذهب ، وليس العبد كالحر ، وقد تدخل على المشبه لأسباب :
منها : وضوح الحال ؛ كقوله تعالى :
وليس الذكر كالأنثى ( آل عمران : 36 ) فإن الأصل : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن الأصل ؛ لأن معنى
وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ؛ لأن الأنثى أفضل منه ، وقيل : لمراعاة الفواصل ؛ لأن قبله
إني وضعتها أنثى ( آل عمران : 36 ) .
ووهم
ابن الزملكاني في " البرهان " حيث زعم أن هذا من
التشبيه المقلوب ، وليس كذلك لما ذكرنا من المعنى .
[ ص: 478 ] وقيل : لما كان جعل الفرع أصلا والأصل فرعا في التشبيه في حالة الإثبات ، يقتضي المبالغة في التشبيه ، كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفيه ، كان جعل الأصل فرعا والفرع أصلا في كماله الذي يقتضي نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة ، وذلك هو المقصود هنا ؛ لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف وأغلبها ، ولهذا يقاد أحدهما بالآخر .
ومنها قصد المبالغة ، فيقلب التشبيه ، ويجعل المشبه هو الأصل ، ويسمى تشبيه العكس ؛ لاشتماله على جعل المشبه مشبها به ، والمشبه به مشبها ؛ كقوله تعالى :
قالوا إنما البيع مثل الربا ( البقرة : 275 ) كان الأصل أن يقولوا : إنما الربا مثل البيع ؛ لأن الكلام في الربا لا في البيع ، لكن عدلوا عن ذلك وتجرءوا ، إذ جعلوا الربا أصلا ملحقا به البيع في الجواز ، وأنه الخليق بالحل .
ويحتمل أن يكون المراد إلزام الإسلام ، فيحرم البيع قياسا على الربا ؛ لاشتماله على الفضل طردا لأصلهم ، وهو في المعنى نقض على علة التحريم ، ويؤيده قوله تعالى :
وأحل الله البيع وحرم الربا ( البقرة : 275 ) وفيه إشارة إلى أن الواجب اتباع أحكام الله واقتفاؤها من غير تعرض لإجرائها على قانون واحد ، وأن الأسرار الإلهية كثيرا ما تخفى ، وهو أعلم بمصالح عباده فيسلم له عنان الانقياد ، وأنهم جعلوا ذلك من باب إلزام الجدلي ، رجاء الجواب بفك الملازمة ، وأن الحكمة فرقت بينهما ، وفيه إبطال القياس في مقابلة النص .
ومنه قوله تعالى :
أفمن يخلق كمن لا يخلق ( النحل : 17 ) فإن الظاهر العكس ؛ لأن الخطاب لعبدة الأوثان ؛ وسموها آلهة تشبيها بالله سبحانه ، وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق ، فخولف في خطابهم ؛ لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوا ، حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق سبحانه فرعا فجاء الإشكال على وفق ذلك .
والظاهر أنهم لما قاسوا غير الخالق خوطبوا بأشد الإلزامين ؛ وهو تنقيص المقدس لا تقديس الناقص .
[ ص: 479 ] قال
السكاكي : " وعندي أن المراد بـ " من لا يخلق " الحي القادر من الخلق ؛ تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله تعالى من طريق الأولى ، وجعل منه قوله تعالى :
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ( الجاثية : 23 ) بدل " هواه إلهه " فإنه جعل المفعول الأول ثانيا والثاني أول ؛ للتنبيه على أن الهوى أقوى وأوثق عنده من إلهه .
ومنه قوله تعالى :
أفنجعل المسلمين كالمجرمين ( القلم : 35 ) .
وقوله :
أم نجعل المتقين كالفجار ( ص : 28 ) فإن بعضهم أورد أن أصل التشبيه يشبه الأدنى بالأعلى ، فيقال : أفتجعل المجرمين كالمسلمين ، والفجار كالمتقين " فلم خولفت القاعدة .
ويقال : فيه وجهان :
أحدهما : أن الكفار كانوا يقولون : نحن نسود في الآخرة كما نسود في الدنيا ، ويكونون أتباعا لنا ، فكما أعزنا الله في هذه الدار يعزنا في الآخرة ، فجاء الجواب على معتقدهم أنهم أعلى وغيرهم أدنى .
الثاني : لما قيل قبل الآية :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا ( ص : 27 ) أي : يظنون أن الأمر يهمل ، وأن لا حشر ولا نشر ، ولم يظنوا ذلك ، ولكن يظنون أنا نجعل المؤمنين كالمجرمين والمتقين كالفجار .
السادسة : أن
التشبيه إذا كان في الذم يشبه الأعلى بالأدنى ؛ لأن الذم مقام الأدنى ، والأعلى ظاهر عليه ، فيشبه به في السلب ، ومنه قوله :
يانساء النبي لستن كأحد من النساء ( الأحزاب : 32 ) أي : في النزول لا في العلو .
ومنه :
أم نجعل المتقين كالفجار ( ص : 28 ) أي : في سوء الحال ،
[ ص: 480 ] وإذا كان في المدح يشبه الأدنى بالأعلى فيقال : تراب كالمسك ، وحصى كالياقوت ، وفي الذم : مسك كالتراب ، وياقوت كالزجاج .
السابعة : قد يدخل التشبيه على لفظ وهو محذوف لامتناع ذلك ؛ لأنه بسبب المحذوف ، كقوله تعالى :
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ( البقرة : 171 ) فإن التقدير : ومثل واعظ الذين كفروا ، فالمشبه الواعظ ، والمقصود تشبيه حال الواعظ منهم بالناعق للأغنام ، وهي لا تعقل معنى دعائه ، وإنما تسمع صوته ولا تفهم غرضه ، وإنما وقع التشبيه على الغنم التي ينعق بها الراعي ويمد صوته إليها ، فلم يحمل التشبيه فيها وصوله إلى الراعي الذي يصيح لما كان من الأمر تشبيه ، وفيه وجوه :
أحدها : أن المعنى : مثل الذين كفروا كمثل الغنم لا تفهم نداء الناعق ، فأضاف المثل إلى الناعق ، وهو في المعنى للمنعوق به ، على القلب .
ثانيها : ومثل الذين كفروا ومثلنا ومثلك ، كمثل الذي ينعق ، أي مثلهم في الإعراض ومثلنا في الدعاء والإرشاد ، كمثل الناعق بالغنم ، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول ، كقوله :
سرابيل تقيكم الحر ( النحل : 81 ) .
وثالثها : أن المعنى : ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام - وهي لا تعقل ولا تسمع -
كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وعلى هذا فالنداء والدعاء منتصبان بـ " ينعق " و ( لا ) توكيد للكلام ومعناها الإلغاء .
رابعها : أن المعنى ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام وعبادتهم لها واسترزاقهم إياها ، كمثال الراعي الذي ينعق بأغنامه ويناديها ، فهي تسمع نداء ولا تفهم معنى كلامه ، فيشبه من يدعوه الكفار من المعبودات من دون الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب .
[ ص: 481 ] وهذا قريب من الذي قبله ، ويفترقان في أن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ، ويجب صرفه إلى غير الغنم ، وهذا يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء جملة ، وإن لم يفهمهما ، والأصنام من حيث كانت لا تسمع الدعاء جملة يجب أن يكون داعيها وناديها أسوأ حالا من منادي الغنم . ذكر ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=15194الشريف المرتضى في كتاب " غرر الفوائد " .
ومنه قوله تعالى :
كمثل ريح فيها صر ( آل عمران : 117 ) الآية ، وإنما وقع التشبيه على الحرث الذي أهلكته الريح ، يقول : أن يجعله على الحرث وصوله إلى الريح التي أهلكت الحرث لما كانت الريح من الأمر بسبب ، قيل : فيه إضمار ؛ أي : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح .
قال
ثعلب : فيه تقديم وتأخير ، أي : كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صر فأهلكته .
وأما قوله تعالى :
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ( البقرة : 165 ) فإن التقدير : كما يحب المؤمنون الله ، قال : وحذف الفاعل لأنه غير ملتبس .
واعترض عليه بأنه لا حاجة لذلك ؛ فإن المعنى حاصل بتقديره مبنيا للفاعل .
وأجيب بأنه تقدير معنى ، لكن محافظة على اللفظ فلا يقدر الفاعل ، إذ الفاعل في باب المصدر فضلة ، فلذلك جعله كذلك في التقدير .