فصل .
في
الاقتباس وما جرى مجراه :
الاقتباس : تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن ، لا على أنه منه . بألا يقال فيه : قال الله تعالى ، ونحوه ، فإن ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا .
وقد اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله .
وأما أهل مذهبنا : فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين ، مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشعراء له قديما وحديثا .
وقد تعرض له جماعة من المتأخرين ; فسئل عنه الشيخ
عز الدين بن عبد السلام فأجازه واستدل له بما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله في الصلاة وغيرها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=979708وجهت وجهي " إلى آخره وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=979709اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ، اقض عني الدين ، وأغنني من الفقر .
وفي سياق كلام
لأبي بكر وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
وفي آخر حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر : " قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " . انتهى .
وهذا كله إنما يدل على
جوازه في مقام المواعظ والثناء والدعاء ، وفي النثر ، لا دلالة فيه على جوازه في الشعر ، وبينهما فرق ، فإن
القاضي أبا بكر من المالكية صرح بأن تضمينه في الشعر مكروه وفي النثر جائز .
[ ص: 367 ] واستعمله أيضا في النثر
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض في مواضع من خطبة الشفا .
وقال
الشرف إسماعيل بن المقرئ اليمني صاحب " مختصر الروضة " في شرح بديعيته : ما كان منه في الخطب والمواعظ ومدحه - صلى الله عليه وسلم - ولو في النظم فهو مقبول ، وغيره مردود .
وفي شرح بديعية
ابن حجة : الاقتباس ثلاثة أقسام مقبول . ومباح . ومردود .
فالأول : ما كان في الخطب والمواعظ والعهود .
والثاني : ما كان في القول والرسائل والقصص .
والثالث : على ضربين :
أحدهما : ما نسبه الله إلى نفسه ، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه ، كما قيل : عن أحد
بني مروان أنه وقع على مطالعة فيها شكاية عماله : إن إلينا إيابهم ، ثم إن علينا حسابهم .
والآخر تضمين آية في معنى هزل ، ونعوذ بالله من ذلك كقوله :
أرخى إلى عشاقه طرفه هيهات هيهات لما توعدون وردفه ينطق من خلفه
لمثل ذا فليعمل العاملون
قلت : وهذا التقسيم حسن جدا ، وبه أقول .
وذكر الشيخ
تاج الدين بن السبكي في طبقاته في ترجمة الإمام
أبي منصور عبد القاهر بن الطاهر التميمي البغدادي من كبار الشافعية وأجلائهم ، أن من شعره قوله :
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترف ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وقال : استعمال مثل الأستاذ
أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره له فائدة ، فإنه جليل القدر ، والناس ينهون عن هذا ، وربما أدى بحث بعضهم إلى أنه يجوز .
وقيل : إن ذلك إنما يفعله من الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون ، ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي . وهذا الأستاذ
أبو منصور من أئمة الدين ، وقد فعل هذا وأسند عنه هذين البيتين الأستاذ
nindex.php?page=showalam&ids=13359أبو القاسم بن عساكر .
قلت : ليس هذان البيتان من الاقتباس لتصريحه بقول الله ، وقد قدمنا أن ذلك خارج عنه .
وأما أخوه الشيخ
بهاء الدين ، فقال في " عروس الأفراح " : الورع اجتناب ذلك كله ، وأن ينزه عن مثله كلام الله ورسوله .
قلت : رأيت استعمال الاقتباس لأئمة أجلاء ، منهم الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14345أبو القاسم الرافعي ، قال : وأنشده في أماليه ورواه عنه أئمة كبار :
[ ص: 368 ] الملك لله الذي عنت الوجو ه له وذلت عنده الأرباب
متفرد بالملك والسلطان قد خسر الذين تجاذبوه وخابوا
دعهم وزعم الملك يوم غرورهم فسيعلمون غدا من الكذاب
.
وروى
البيهقي في شعب الإيمان عن شيخه
nindex.php?page=showalam&ids=14510أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : أنشدنا
أحمد بن محمد بن يزيد لنفسه .
سل الله من فضله واتقه فإن التقى خير ما تكتسب
ومن يتق الله يصنع له ويرزقه من حيث لا يحتسب
.
ويقرب من الاقتباس شيئان :
أحدهما : قراءة القرآن يراد بها الكلام . قال
النووي في التبيان : ذكر
ابن أبي داود في هذا اختلافا ، فروى
النخعي : أنه كان يكره أن يتأول القرآن لشيء يعرض من أمر الدنيا .
وأخرج عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب : أنه قرأ في صلاة المغرب
بمكة :
والتين والزيتون وطور سينين ، ثم رفع صوته ، فقال :
وهذا البلد الأمين .
وأخرج عن
حكيم بن سعيد : أن رجلا من المحكمة أتى
عليا وهو في صلاة الصبح . فقال
لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر : 65 ] . فأجابه في الصلاة
فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون [ الروم : 60 ] . انتهى .
وقال غيره : يكره ضرب الأمثال في القرآن ، صرح به من أصحابنا
العماد البيهقي تلميذ
البغوي . كما نقله الصلاح في فوائد رحلته .
الثاني : التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر وغيره ، وهو جائز بلا شك ، وروينا عن
الشريف تقي الدين الحسيني أنه لما نظم قوله :
مجاز حقيقتها فاعبروا ولا تعمروا هونوها تهن
وما حسن بيت له زخرف تراه إذا زلزلت لم يكن !
خشي أن يكون ارتكب حراما ، لاستعماله هذه الألفاظ القرآنية في الشعر ، فجاء إلى شيخ الإسلام
تقي الدين بن دقيق العيد يسأله عن ذلك ، فأنشده إياهما ، فقال له : قل : ( وما حسن كهف ) ، فقال : يا سيدي أفدتني وأفتيتني .
خاتمة : قال
الزركشي في " البرهان " : لا يجوز تعدي أمثلة القرآن ، ولذلك أنكر على
[ ص: 369 ] الحريري قوله : ( فأدخلني بيتا أحرج من التابوت ، وأوهى من بيت العنكبوت ) .
وأي معنى أبلغ من معنى أكده الله من ستة أوجه ; حيث قال
وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت [ العنكبوت : 41 ] فأدخل إن وبنى أفعل التفضيل ، وبناه من الوهن ، وأضافه إلى الجمع ، وعرف الجمع باللام ، وأتى في خبر إن باللام .
لكن استشكل هذا بقوله تعالى :
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ البقرة : 26 ] . وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل بما دون البعوضة فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=979710لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة . . . .
قلت : قد قال قوم في الآية إن معنى قوله
فما فوقها في الخسة ، وعبر بعضهم عن هذا بقوله : معناه : ( فما دونها ) فزال الإشكال .