قاعدة أخرى تتعلق بالتعريف والتنكير :
إذا ذكر الاسم مرتين ، فله أربعة أحوال : لأنه إما أن يكونا معرفتين ، أو نكرتين ، أو الأول نكرة والثاني معرفة ، أو بالعكس .
فإن كانا معرفتين : فالثاني هو الأول غالبا ، دلالة على المعهود الذي هو في الأصل في اللام أو الإضافة ، نحو :
اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ الفاتحة : 6 - 7 ]
فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 2 - 3 ]
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة [ الصافات : 158 ]
وقهم السيئات ومن تق السيئات لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات [ غافر : 36 - 37 ] .
وإن كانا نكرتين : فالثاني غير الأول غالبا ، وإلا لكان المناسب هو التعريف بناء على
[ ص: 571 ] كونه معهودا سابقا ، نحو :
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة [ الروم : 54 ] فإن المراد بالضعف الأول النطفة ، وبالثاني الطفولية ، وبالثالث الشيخوخة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12671ابن الحاجب في قوله تعالى :
غدوها شهر ورواحها شهر [ سبإ : 12 ] : الفائدة في إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح ، والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ، ولو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته ، فإذا لم يكن له وجب العدول عن المضمر إلى الظاهر .
وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى :
فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا [ الشرح : 5 - 6 ] فالعسر الثاني هو الأول ، واليسر الثاني غير الأول ; ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في الآية :
nindex.php?page=hadith&LINKID=979718لن يغلب عسر يسرين .
وإن كان الأول نكرة والثاني معرفة فالثاني هو الأول حملا على العهد ، نحو :
أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول [ المزمل : 15 - 16 ]
فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة [ ص: 572 ] [ النور : 35 ] .
إلى صراط مستقيم صراط الله [ الشورى : 52 - 53 ]
ما عليهم من سبيل إنما السبيل [ الشورى : 41 - 42 ] .
وإن كان الأول معرفة والثاني نكرة ، فلا يطلق القول ، بل يتوقف على القرائن : فتارة تقوم قرينة على التغاير ، نحو :
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ الروم : 55 ] ،
يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا [ النساء : 153 ] ،
ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى [ غافر : 53 - 54 ] قال :
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : المراد جميع ما أتاه من الدين والمعجزات والشرائع ، و ( الهدى ) إرشادا . وتارة تقوم قرينة على الاتحاد ، نحو :
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا [ الزمر : 27 - 28 ] .
تنبيه : قال
الشيخ بهاء الدين في " عروس الأفراح " وغيره : إن الظاهر أن هذه القاعدة غير محررة ، فإنها منتقضة بآيات كثيرة :
منها في القسم الأول :
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ الرحمن : 60 ] : فإنهما معرفتان والثاني غير الأول ، فإن الأول العمل والثاني الثواب .
أن النفس بالنفس أي : القاتلة بالمقتولة ، وكذا سائر الآية .
الحر بالحر [ البقرة : 178 ] الآية .
هل أتى على الإنسان حين من الدهر ثم قال :
إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ الإنسان : 1 - 2 ] فإن الأول آدم والثاني : ولده .
وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به [ العنكبوت : 47 ] فإن الأول القرآن ، والثاني التوراة والإنجيل .
ومنها في القسم الثاني :
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ الزخرف : 84 ] .
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ البقرة : 217 ] . فإن الثاني فيهما هو الأول ، وهما نكرتان .
ومنها في القسم الثالث :
أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير [ النساء : 128 ] .
ويؤت كل ذي فضل فضله [ هود : 3 ] .
ويزدكم قوة إلى قوتكم [ هود : 52 ] .
ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ الفتح : 4 ] .
زدناهم عذابا فوق العذاب [ النحل : 88 ] .
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن [ يونس : 36 ] . فإن الثاني فيها غير الأول .
وأقول : لا انتقاض بشيء من ذلك عند التأمل ; فإن اللام في الإحسان للجنس فيما يظهر ، وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة .
وكذا آية النفس والحر بخلاف آية العسر ; فإن ( أل ) فيها إما للعهد أو للاستغراق كما يفيده الحديث .
[ ص: 573 ] وكذا آية الظن ، لا نسلم فيها أن الثاني فيها غير الأول : ، بل هو عينه قطعا ; إذ ليس كل ظن مذموما ، كيف وأحكام الشريعة ظنية .
وكذا آية الصلح ، لا مانع من أن يكون المراد منها الصلح المذكور ، وهو الذي بين الزوجين ، واستحباب الصلح في سائر الأمور مأخوذ من السنة ومن الآية بطريق القياس ، بل لا يجوز القول بعموم الآية ، وأن كل صلح خير ; لأن ما أحل حراما من الصلح أو حرم حلالا فهو ممنوع .
وكذا آية القتال : ليس الثاني فيها عين الأول بلا شك ; لأن المراد بالأول المسئول عنه القتال الذي وقع في سرية
ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة ، لأنه سبب نزول الآية ، والمراد بالثاني جنس القتال لا ذاك بعينه .
وأما آية :
وهو الذي في السماء إله [ الزخرف : 84 ] فقد أجاب عنها
الطيبي : أنها من باب التكرير ; لإفادة أمر زائد ، بدليل تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله :
سبحان رب السماوات والأرض رب العرش [ الزخرف : 82 ] . ووجهه الإطناب في تنزيهه تعالى عن نسبة الولد إليه ، وشرط القاعدة ألا يقصد التكرير .
وقد ذكر
الشيخ بهاء الدين في آخر كلامه : إن المراد بذكر الاسم مرتين كونه مذكورا في كلام واحد أو كلامين بينهما تواصل ، بأن يكون أحدهما : معطوفا على الآخر ، وله به تعلق ظاهر وتناسب واضح ، وأن يكونا من متكلم واحد . ودفع بذلك إيراد آية القتال ; لأن الأول فيها محكي عن قول السائل ، والثاني محكي من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - .