[ ص: 65 ] وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام : قصر إفراد ، وقصر قلب ، وقصر تعيين .
فالأول : يخاطب به من يعتقد الشركة ، نحو :
إنما هو إله واحد [ النحل : 51 ] ، خوطب به من يعتقد اشتراك الله والأصنام في الألوهية .
والثاني : يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له ، نحو :
ربي الذي يحيي ويميت [ البقرة : 258 ] خوطب به نمروذ الذي اعتقد أنه هو المحيي المميت دون الله .
ألا إنهم هم السفهاء [ البقرة : 13 ] ، خوطب به من اعتقد من المنافقين أن المؤمنين سفهاء دونهم .
وأرسلناك للناس رسولا [ النساء : 79 ] ، خوطب به من يعتقد من اليهود اختصاص بعثته بالعرب .
والثالث : يخاطب به من تساوى عنده الأمران ، فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها .
فصل [ طرق الحصر ] .
طرق الحصر كثيرة .
أحدها : النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أو ما أو غيرهما . والاستثناء بإلا أو غير ، نحو :
لا إله إلا الله [ الصافات : 35 ] ،
وما من إله إلا الله [ آل عمران : 62 ] ،
ما قلت لهم إلا ما أمرتني به [ المائدة : 117 ] .
ووجه إفادة الحصر أن الاستثناء المتفرغ لا بد أن يتوجه النفي فيه إلى مقدر وهو مستثنى منه ؛ لأن الاستثناء إخراج فيحتاج إلى مخرج منه ، والمراد التقدير المعنوي لا الصناعي ، ولا بد أن يكون عاما ؛ لأن الإخراج لا يكون إلا من عام ولا بد أن يكون مناسبا للمستثنى في جنسه ، مثل : ما قام إلا زيد ؛ أي : أحد ، وما أكلت إلا تمرا ؛ أي : مأكولا . ولا بد أن يوافقه في صفته ؛ أي : إعرابه ، وحينئذ يجب القصر إذا أوجب منه شيء بإلا ضرورة ، ببقاء ما عداه على صفة الانتفاء .
[ ص: 66 ] وأصل استعمال هذا الطريق أن يكون المخاطب جاهلا بالحكم ، وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب ، نحو :
وما محمد إلا رسول [ آل عمران : 144 ] ، فإنه خطاب للصحابة وهم لم يكونوا يجهلون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل استعظامهم له عن الموت منزلة من يجهل رسالته ؛ لأن كل رسول لا بد من موته فمن استبعد موته فكأنه استبعد رسالته .
الثاني : إنما الجمهور على أنها للحصر فقيل بالمنطوق ، وقيل : بالمفهوم .
وأنكر قوم إفادتها ، منهم
أبو حيان ، واستدل مثبتوه بأمور .
منها قوله تعالى :
إنما حرم عليكم الميتة [ البقرة : 173 ] ، بالنصب فإن معناه : ما حرم عليكم إلا الميتة ؛ لأنه المطابق في المعنى لقراءة الرفع ، فإنها للقصر ، فكذا قراءة النصب ، والأصل استواء معنى القراءتين .
ومنها أن ( إن ) للإثبات وما للنفي فلا بد أن يحصل القصر للجمع بين النفي والإثبات ، لكن تعقب بأن ( ما ) زائدة كافة لا نافية .
ومنها : أن ( إن ) للتأكيد و ( ما ) كذلك فاجتمع تأكيدان فأفاد الحصر ، قاله
السكاكي . وتعقب بأنه لو كان اجتماع تأكيدين يفيد الحصر لأفاده ، نحو : إن زيدا لقائم .
وأجيب بأن مراده : لا يجتمع حرفا تأكيد متواليان إلا للحصر .
ومنها قوله تعالى : قال :
إنما العلم عند الله [ الأحقاف : 23 ] ،
قال إنما يأتيكم به الله [ هود : 33 ] ،
قل إنما علمها عند ربي [ الأعراف : 187 ] ، فإنه إنما تحصل مطابقة الجواب إذا كانت إنما للحصر ليكون معناها : لا آتيكم به إنما يأتي به الله ، ولا أعلمها إنما يعلمها الله ، وكذا قوله :
ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس [ الشورى : 41 ، 42 ] ،
ما على المحسنين من سبيل إلى قوله :
إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء [ التوبة : 91 - 93 ] .
وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي [ الأعراف : 203 ] ،
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ [ آل عمران : 20 ] ، لا يستقيم المعنى في هذه الآيات ونحوها إلا بالحصر ، وأحسن ما يستعمل إنما هو من مواقع التعريض ، نحو :
إنما يتذكر أولو الألباب .
[ ص: 67 ] الثالث : ( أنما ) بالفتح عدها من طرق الحصر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري والبيضاوي فقالا في قوله تعالى :
قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد [ الأنبياء : 108 ] إنما لقصر الحكم على شيء ، أو لقصر الشيء على حكم ، نحو : إنما زيد قائم ، وإنما يقوم زيد ، وقد اجتمع الأمران في هذه الآية ؛ لأن :
إنما يوحى إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد ، و
أنما إلهكم بمنزلة إنما زيد قائم . وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية .
وصرح
التنوخي في الأقصى القريب بكونها للحصر ، فقال : كلما أوجب أن إنما بالكسر لحصر أوجب أن إنما بالفتح للحصر ؛ لأنها فرع عنها ، وما ثبت للأصل ثبت للفرع ما لم يثبت مانع منه ، والأصل عدمه . ورد
أبو حيان على
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ما زعمه بأنه يلزمه انحصار الوحي في الوحدانية .
وأجيب بأنه حصر مجازي باعتبار المقام .
الرابع : العطف بلا أو بل ، ذكره أهل البيان ، ولم يحكوا فيه خلافا نازع فيه
الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح ، فقال : أي قصر في العطف بلا إنما فيه نفي وإثبات ، فقولك زيد شاعر لا كاتب لا تعرض فيه لنفي صفة ثالثة ، والقصر إنما يكون بنفي جميع الصفات غير المثبت حقيقة أو مجازا ، وليس هو خاصا بنفي الصفة التي يعتقدها المخاطب ، وأما العطف ببل فأبعد منه لأنه لا يستمر فيها النفي والإثبات .
الخامس : تقديم المعمول ، نحو :
إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] ،
لإلى الله تحشرون [ آل عمران : 158 ] ، وخالف فيه قوم وسيأتي بسط الكلام فيه قريبا .
السادس : ضمير الفصل ، نحو :
فالله هو الولي [ الشورى : 9 ] ؛ أي : لا غيره
وأولئك هم المفلحون [ البقرة : 5 ] ،
إن هذا لهو القصص الحق [ آل عمران : 62 ] ،
إن شانئك هو الأبتر [ الكوثر : 3 ] ، وممن ذكر أنه للحصر البيانيون في بحث المسند إليه ، واستدل له السهيلي بأنه : أتي به في كل موضع ادعي فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله ، ولم يؤت به حيث لم يدع ،
[ ص: 68 ] وذلك في قوله :
وأنه هو أضحك وأبكى [ النجم : 43 ] ، إلى آخر الآيات ، فلم يؤت به في :
وأنه خلق الزوجين [ النجم : 45 ] ،
وأن عليه النشأة [ النجم : 47 ] ،
وأنه أهلك عادا الأولى [ النجم : 50 ] ؛ لأن ذلك لم يدع لغير الله وأتي به في الباقي لادعائه لغيره .
قال في " عروس الأفراح " : وقد استنبطت دلالته على الحصر من قوله :
فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ المائدة : 117 ] ؛ لأنه لو لم يكن للحصر لما حسن ، لأن الله لم يزل رقيبا عليهم ، وإنما الذي حصل بتوفيته أنه لم يبق لهم رقيب غير الله تعالى ، ومن قوله :
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [ الحشر : 20 ] ، فإنه ذكر لتبيين عدم الاستواء ، وذلك لا يحسن إلا بأن يكون الضمير للاختصاص .
السابع : تقديم المسند إليه على ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13990الشيخ عبد القاهر : قد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي . والحاصل على رأيه أن له أحوالا .
أحدها : أن يكون المسند إليه معرفة ، والمسند مثبتا ، فيأتي للتخصيص ، نحو : أنا قمت وأنا سعيت في حاجتك . فإن قصد به قصر الإفراد أكد بنحو ( وحدي ) أو قصر القلب أكد بنحو ( لا غيري ) ومنه :
بل أنتم بهديتكم تفرحون [ النمل : 36 ] ، فإن ما قبله من قوله :
أتمدونني بمال [ النمل : 36 ] ، ولفظ ( بل ) المشعر بالإضراب يقضي بأن المراد : بل أنتم لا غيركم ، على أن المقصود نفي فرحه هو بالهدية ، لا إثبات الفرح لهم بهديتهم . قاله في عروس الأفراح .
قال : وكذا قوله :
لا تعلمهم نحن نعلمهم [ التوبة : 101 ] ؛ أي : لا يعلمهم إلا نحن .
وقد يأتي للتقوية والتأكيد دون التخصيص .
قال
الشيخ بهاء الدين : ولا يتميز ذلك إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام .
ثانيها : أن يكون المسند منفيا ، نحو : ( أنت لا تكذب ) فإنه أبلغ في نفي الكذب من ( لا تكذب ) ومن ( لا تكذب أنت ) .
وقد يفيد التخصيص ومنه :
فهم لا يتساءلون [ القصص : 66 ] .
ثالثها : أن يكون المسند إليه نكرة مثبتا ، نحو : رجل جاءني ، فيفيد التخصيص إما بالجنس ؛ أي : لا امرأة ، أو الوحدة ؛ أي : لارجلان .
رابعها : أن يلي المسند إليه حرف النفي فيفيده ، نحو : ما أنا قلت هذا ؛ أي : لم أقله ، مع أن غيري قاله ، ومنه :
وما أنت علينا بعزيز [ هود : 91 ] ؛ أي : العزيز علينا رهطك لا أنت ، ولذا قال :
أرهطي أعز عليكم من الله [ هود : 92 ] .
[ ص: 69 ] هذا حاصل رأي
nindex.php?page=showalam&ids=13990الشيخ عبد القاهر ، ووافقه
السكاكي ، وزاد شروطا وتفاصيل بسطناها في شرح ألفية المعاني .
الثامن : تقديم المسند ، ذكر
ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص ورده صاحب الفلك الدائر بأنه لم يقل به أحد وهو ممنوع ، فقد صرح
السكاكي وغيره بأن تقديم ما رتبته التأخير يفيده ، ومثلوه بنحو : تميمي أنا .
التاسع : ذكر المسند إليه . ذكر
السكاكي أنه قد يذكر ليفيد التخصيص ، وتعقبه صاحب الإيضاح ، وصرح
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري بأنه أفاد الاختصاص في قوله :
الله يبسط الرزق [ الرعد : 26 ] ، وفي قوله :
الله نزل أحسن الحديث [ الزمر : 23 ] ، وفي قوله :
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل [ الأحزاب : 4 ] ، ويحتمل أنه أراد أن تقديمه أفاده فيكون من أمثلة الطريق السابع .
العاشر : تعريف الجزأين ، ذكر
الإمام فخر الدين في نهاية الإيجاز أنه يفيد الحصر حقيقة أو مبالغة ، نحو : المنطلق زيد ، ومنه في القرآن فيما ذكر
الزملكاني في أسرار التنزيل :
الحمد لله [ الفاتحة : 2 ] ، قال : إنه يفيد الحصر كما في :
إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] ؛ أي : الحمد لله لا لغيره .
الحادي عشر : ، نحو : جاء زيد نفسه نقل بعض شراح التلخيص عن بعضهم أنه يفيد الحصر .
الثاني عشر : ، نحو : إن زيدا لقائم نقله المذكور أيضا .
الثالث عشر : ، نحو : قائم في جواب : زيد إما قائم أو قاعد ، ذكره
الطيبي في شرح " التبيان " .
الرابع عشر : قلب بعض حروف الكلمة ، فإنه يفيد الحصر على ما نقله في الكشاف في قوله :
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها [ الزمر : 17 ] ، قال : القلب للاختصاص بالنسبة إلى لفظ الطاغوت ؛ لأن وزنه على قول فعلوت من الطغيان كملكوت ورحموت ، قلب بتقديم اللام على العين ، فوزنه فلعوت ففيه مبالغات التسمية
[ ص: 70 ] بالمصدر ، والبناء بناء مبالغة ، والقلب ، وهو للاختصاص ؛ إذ لا يطلق على غير الشيطان .