[ ص: 144 ] تنبيهات .
الأول : هل يقال : إن معنى الاستفهام في هذه الأشياء موجود ، وانضم إليه معنى آخر ، أو تجرد عن الاستفهام بالكلية ؟ قال في " عروس الأفراح " : محل نظر ، قال : والذي يظهر الأول .
قال : ويساعده قول
التنوخي في " الأقصى القريب " : إن لعل تكون للاستفهام مع بقاء الترجي . قال : ومما يرجحه أن الاستبطاء في قولك : كم أدعوك ؟ معناه : أن الدعاء وصل إلى حد لا أعلم عدده ، فأنا أطلب أن أعلم عدده ، والعادة تقتضي بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثر فلم يعلمه ، وفي طلب فهم عدده ما يشعر بالاستبطاء .
وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر ، فمن تعجب من شيء فهو بلسان الحال سائل عن سببه ، فكأنه يقول : أي شيء عرض لي في حال عدم رؤية الهدهد ! وقد صرح في الكشاف ببقاء الاستفهام في هذه الآية .
وأما
التنبيه على الضلال فالاستفهام فيه حقيقي ؛ لأن معنى ( أين تذهب ؟ ) : أخبرني إلى أي مكان تذهب ، فإني لا أعرف ذلك ؟ وغاية الضلال لا يشعر بها إلى أين تنتهي .
وأما التقرير : فإن قلنا : المراد به الحكم بثبوته ، فهو خبر بأن المذكور عقيب الأداة واقع ، أو طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم ، فهو استفهام يقرر المخاطب ؛ أي : يطلب منه أن يكون مقرا به . وفي كلام الفن ما يقتضي الاحتمالين والثاني أظهر .
وفي الإيضاح تصريح به ، ولا بدع في صدور الاستفهام ممن يعلم المستفهم عنه ؛ لأنه طلب الفهم ، إما طلب فهم المستفهم أو وقوع فهم لمن لم يفهم كائنا من كان ، وبهذا تنحل إشكالات كثيرة في مواقع الاستفهام ، ويظهر بالتأمل بقاء معنى الاستفهام مع كل أمر من الأمور المذكورة . انتهى ملخصا .
[ ص: 145 ] الثاني : القاعدة أن
المنكر يجب أن يلي الهمزة ، وأشكل عليها قوله تعالى :
أفأصفاكم ربكم بالبنين [ الإسراء : 40 ] ، فإن الذي يليها هنا الإصفاء بالبنين وليس هو المنكر ؛ إنما المنكر قولهم : ( إنه اتخذ من الملائكة إناثا ) .
وأجيب : بأن لفظ الإصغاء مشعر بزعم أن البنات لغيرهم ، أو بأن المراد مجموع الجملتين ، وينحل منهما كلام واحد .
والتقدير : أجمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات ؟ وأشكل منه قوله :
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ البقرة : 44 ] ، ووجه الإشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر فقط كما تقتضيه القاعدة المذكورة ؛ لأن أمر البر ليس مما ينكر ، ولا نسيان النفس فقط ؛ لأنه يصير ذكر أمر الناس بالبر لا مدخل له ، ولا مجموع الأمرين ؛ لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر ، ولا نسيان النفس بشرط الأمر ؛ لأن النسيان منكر مطلقا ، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشد منه حال عدم الأمر ؛ لأن المعصية لا تزداد بشاعتها بانضمامها إلى الطاعة ؛ لأن جمهور العلماء على أن الأمر بالبر واجب ، وإن كان الإنسان ناسيا لنفسه ، وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف بمعصية نسيان ، ولا يأتي الخير بالشر ؟
قال في عروس الأفراح : ويجاب بأن فعل المعصية مع النهي عنها أفحش ؛ لأنها تجعل حال الإنسان كالمتناقض ، وتجعل القول كالمخالف للفعل ، ولذلك كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل . قال : ولكن الجواب على أن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها من جنسها ؟ فيه دقة .