[ ص: 277 ] النوع السابع والستون في أقسام القرآن .
أفرده
ابن القيم بالتصنيف في مجلد سماه التبيان .
والقصد بالقسم تحقيق الخير وتوكيده حتى جعلوا مثل
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [ المنافقون : 1 ] . قسما وإن كان فيه إخبار بشهادة لأنه لما جاء توكيدا للخبر سمي قسما .
وقد قيل : ما
معنى القسم منه تعالى فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده .
وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا .
وأجاب
nindex.php?page=showalam&ids=14999أبو القاسم القشيري بأن الله ذكر
القسم لكمال الحجة وتأكيدها ، وذلك أن الحكم يفصل باثنين : إما بالشهادة وإما بالقسم ، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة فقال :
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [ آل عمران : 18 ] . وقال
قل إي وربي إنه لحق [ يونس : 53 ] .
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله :
وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق [ الذاريات : 22 ، 23 ] . صرخ وقال : من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين .
ولا يكون القسم إلا باسم معظم وقد
أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في سبعة مواضع : الآية المذكورة بقوله :
قل إي وربي [ يونس : 53 ] .
قل بلى وربي لتبعثن [ التغابن : 7 ] .
فوربك لنحشرنهم والشياطين [ مريم : 68 ] .
فوربك لنسألنهم أجمعين [ الحجر : 92 ] .
فلا وربك لا يؤمنون [ النساء : 65 ] .
فلا أقسم برب المشارق والمغارب [ المعارج : 4 ] .
[ ص: 278 ] والباقي كله
قسم بمخلوقاته كقوله تعالى :
والتين والزيتون والصافات والشمس والليل والضحى فلا أقسم بالخنس [ التكوير : 15 ] . فإن قيل : كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله ، قلنا : أجيب عنه بأوجه .
أحدها : أنه على حذف مضاف : أي : ورب التين ورب الشمس ، وكذا الباقي .
الثاني : أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء ، وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه .
الثالث : أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو يجله وهو فوقه ، والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه ، وتارة بمصنوعاته ، لأنها تدل على بارئ وصانع .
وقال
ابن أبي الإصبع في أسرار الفواتح : القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل ، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل .
وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم عن
الحسن قال : إن الله يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لأحد أن يقسم إلا بالله .
وقال العلماء :
أقسم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله : لعمرك لتعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه .
أخرج
ابن مردويه عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : ما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفسا أكرم عليه من
محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال :
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ الحجر : 72 ] .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14999أبو القاسم القشيري : القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين : إما لفضيلة أو لمنفعة ، فالفضيلة كقوله :
وطور سينين وهذا البلد الأمين والمنفعة نحو :
والتين والزيتون [ التين : 1 - 3 ] .
وقال غيره :
أقسم الله تعالى بثلاثة أشياء : بذاته كالآيات السابقة وبفعله نحو :
والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها [ الشمس : 5 - 7 ] . وبمفعوله نحو :
والنجم إذا هوى [ النجم : 1 ] .
والطور وكتاب مسطور [ الطور : 1 ، 2 ] .
والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة ، وإما مضمر وهو قسمان دلت عليه اللام نحو :
لتبلون في أموالكم [ آل عمران : 186 ] . وقسم دل عليه المعنى نحو :
وإن منكم إلا واردها [ مريم : 71 ] . وتقديره : والله .
[ ص: 279 ] وقال
أبو علي الفارسي :
الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان .
أحدهما : ما تكون كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم فلا تجاب بجوابه كقوله :
وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [ الحديد : 8 ] .
ورفعنا فوقكم الطور خذوا [ البقرة : 63 ] .
يحلفون لكم [ التوبة : 96 ] . فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوه من الجواب .
والثاني : ما يتلقى بجواب القسم كقوله :
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس [ آل عمران : 187 ] .
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن [ النور : 53 ] . وقال غيره :
أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو ، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله :
وأقسموا بالله [ النور : 53 ] .
يحلفون بالله [ التوبة : 62 ] . ولا تجد الباء مع حذف الفعل ، ومن ثم كان خطأ من جعل قسما بالله
إن الشرك لظلم [ لقمان : 13 ] . بما عهد عندك [ الزخرف : 49 ] .
بحق إن كنت قلته فقد علمته [ المائدة : 116 ] .
وقال
ابن القيم : اعلم أن
الله سبحانه وتعالى يقسم بأمور على أمور ، وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته ، وأقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته ، فالقسم إما على جملة خبرية وهو الغالب كقوله :
فورب السماء والأرض إنه لحق [ الذاريات : 23 ] . وإما على جملة طلبية كقوله :
فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ الحجر : 92 ، 93 ] . مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر ، وقد يراد به تحقيق القسم فالمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه ، فلا بد أن يكون مما يحسن فيه ، وذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها ، فأما الأمور المشهورة الظاهرة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض ، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها ، وما أقسم عليه الرب فهو من آياته فيجوز أن يكون مقسما به ولا ينعكس وهو سبحانه وتعالى يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب ويحذفه أخرى كما يحذف جواب " لو " كثيرا للعلم به .
والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء ، ثم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة ، والتاء في اسم الله تعالى كقوله :
وتالله لأكيدن أصنامكم [ الأنبياء : 57 ] .
[ ص: 280 ] قال : ثم هو سبحانه وتعالى يقسم على أصول الإيمان التي تجب على الخلق معرفتها ، تارة يقسم على التوحيد ، وتارة يقسم على أن القرآن حق ، وتارة على أن الرسول حق ، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد ، وتارة يقسم على حال الإنسان .
فالأولى كقوله :
والصافات صفا إلى قوله :
إن إلهكم لواحد [ الصافات : 1 - 4 ] .
والثاني كقوله :
فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم [ الواقعة : 75 - 77 ] .
والثالث : كقوله :
يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين [ يس : 1 - 3 ] .
والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى [ النجم : 1 - 2 ] . الآيات .
والرابع : كقوله :
والذاريات إلى قوله :
إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع [ الذاريات : 1 - 6 ] .
والمرسلات إلى قوله :
إنما توعدون لواقع [ المرسلات : 1 - 7 ] .
والخامس : كقوله :
والليل إذا يغشى إلى قوله
إن سعيكم لشتى [ الليل : 1 - 4 ] .
والعاديات إلى قوله :
إن الإنسان لربه لكنود [ العاديات : 1 - 6 ] .
والعصر إن الإنسان لفي خسر [ العصر : 1 - 2 ] .
والتين إلى قوله :
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ التين : 1 - 4 ] . الآيات
لا أقسم بهذا البلد إلى قوله :
لقد خلقنا الإنسان في كبد [ البلد : 1 - 4 ] .
قال : وأكثر ما يحذف الجواب إذا كان في نفس المقسم به دلالة على المقسم عليه ، فإن المقصود يحصل بذكره ، فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز كقوله :
ص والقرآن ذي الذكر [ ص : 1 ] . فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ، ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد وما يحتاجون إليه ، والشرف والقدر ، ما يدل على المقسم عليه وهو كونه حقا من عند الله غير مفترى كما يقول الكافرون ، ولهذا قال كثيرون : إن تقدير الجواب : إن القرآن لحق . وهذا يطرد في كل ما شابه ذلك كقوله :
ق والقرآن المجيد [ ق : 1 ] . وقوله :
لا أقسم بيوم القيامة [ القيامة : 1 ] . فإنه يتضمن إثبات المعاد . وقوله :
والفجر [ الفجر : 1 ] . الآيات ، فإنها أزمان تتضمن أفعالا معظمة من المناسك وشعائر الحج ، التي هي عبودية محضة لله تعالى وذل وخضوع لعظمته وفي ذلك تعظيم ما جاء به
محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام .
[ ص: 281 ] قال :
ومن لطائف القسم قوله
والضحى والليل إذا سجى [ الضحى : 1 ، 2 ] . الآيات ، أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له وذلك متضمن لتصديقه له فهو قسم على صحة نبوته ، وعلى جزائه في الآخرة ، فهو قسم على النبوة والمعاد ، وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته ، وتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل المقسم عليه ، وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه حتى قال أعداؤه : ودع
محمدا ربه فأقسم بضوء النهار بعد الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه .