فصل .
في
كيفية الأخذ بإفراد القراءات وجمعها .
الذي كان عليه السلف أخذ كل ختمة برواية ، لا يجمعون رواية إلى غيرها إلا أثناء المائة الخامسة ، فظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة ، واستقر عليه العمل ، ولم يكونوا يسمحون به إلا لمن أفرد القراءات ، وأتقن طرقها ، وقرأ لكل قارئ بختمة على حدة ، بل إذا كان للشيخ روايات قرءوا لكل راو بختمة ، ثم يجمعون له ، وهكذا .
وتساهل قوم ، فسمحوا أن يقرأ لكل قارئ من السبعة بختمة ، سوى
نافع وحمزة ، فإنهم كانوا يأخذون بختمة
nindex.php?page=showalam&ids=16810لقالون ، ثم ختمة
nindex.php?page=showalam&ids=17274لورش ، ثم ختمة
لخلف ، ثم ختمة
لخلاد ، ولا يسمح أحد بالجمع إلا بعد ذلك ، نعم إذا رأوا شخصا أفرد وجمع على شيخ معتبر ، وأجيز وتأهل ، وأراد أن يجمع القراءات في ختمة ، لا يكلفونه الإفراد ، لعلمهم بوصوله إلى حد المعرفة والإتقان .
ثم لهم في الجمع مذهبان :
أحدهما : الجمع بالحرف ، بأن يشرع في القراءة ، فإذا مر بكلمة فيها خلف أعادها بمفردها ، حتى يستوفي ما فيها ، ثم يقف عليها إن صلحت للوقف ، وإلا وصلها بآخر وجه حتى ينتهي إلى الوقف . وإن كان الخلف يتعلق بكلمتين كالمد المنفصل وقف على الثانية ، واستوعب الخلاف ، وانتقل إلى ما بعدها . وهذا مذهب المصريين ، وهو أوثق في الاستيفاء وأخف على الآخذ ، لكنه يخرج عن رونق القراءة وحسن التلاوة .
الثاني : الجمع بالوقف ، بأن يشرع بقراءة من قدمه حتى ينتهي إلى وقف ، ثم يعود إلى القارئ الذي بعده إلى ذلك الوقف ، ثم يعود ، وهكذا حتى يفرغ ، وهذا مذهب الشاميين ، وهو أشد استحضارا ، وأشد استظهارا ، وأطول زمنا ، وأجود مكانا .
وكان بعضهم يجمع بالآية على هذا الرسم .
وذكر
أبو الحسن القيجاطي في قصيدته وشرحها :
لجامع القراءات شروطا سبعة ، حاصلها خمسة :
[ ص: 329 ] أحدها : حسن الوقف .
ثانيها : حسن الابتداء .
ثالثها : حسن الأداء .
رابعها : عدم التركيب فإذا قرأ لقارئ لا ينتقل إلى قراءة غيره حتى يتم ما فيها ، فإن فعل لم يدعه الشيخ بل يشير إليه بيده ; فإن لم يتفطن ، قال لم تصل ، فإن لم يتفطن مكث حتى يتذكر ، فإن عجز ذكر له .
الخامس : رعاية الترتيب في القراءة ، والابتداء بما بدأ به المؤلفون في كتبهم فيبدأ
بنافع قبل
ابن كثير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16810وبقالون قبل
nindex.php?page=showalam&ids=17274ورش .
قال
ابن الجزري : والصواب أن هذا ليس بشرط ، بل مستحب بل الذين أدركناهم من الأستاذين لا يعدون الماهر إلا من يلتزم تقديم شخص بعينه .
وبعضهم كان يراعي في الجمع التناسب : فيبدأ بالقصر ، ثم بالرتبة التي فوقه ، وهكذا إلى آخر مراتب المد . ويبدأ بالمشبع ثم بما دونه إلى القصر . وإنما يسلك ذلك مع شيخ بارع عظيم الاستحضار ، أما غيره فيسلك معه ترتيب واحد .
قال :
وعلى الجامع أن ينظر ما في الأحرف من الخلاف أصولا وفرشا ، فما أمكن فيه التداخل اكتفي منه بوجه ، وما لم يمكن فيه نظر : فإن أمكن عطفه على ما قبله بكلمة أو كلمتين أو بأكثر من غير تخليط ولا تركيب اعتمده ، وإن لم يحسن عطفه رجع إلى موضع ابتدائه حتى يستوعب الأوجه كلها ، من غير إهمال ولا تركيب ولا إعادة ما دخل : فإن الأول ممنوع ، والثاني مكروه ، والثالث معيب .
وأما القراءة بالتلفيق ، وخلط قراءة بأخرى : فسيأتي بسطه في النوع الذي يلي هذا .
وأما القراءات والروايات والطرق والأوجه : فليس للقارئ أن يدع منها شيئا أو يخل به ; فإنه خلل في إكمال الرواية إلا الأوجه ، فإنها على سبيل التخيير فأي وجه أتى به أجزأه في تلك الرواية .
وأما : قدر ما يقرأ حال الأخذ : فقد كان الصدر الأول لا يزيدون على عشر آيات لكائن من كان ، وأما من بعدهم فرأوه بحسب قوة الآخذ .
قال
ابن الجزري : الذي استقر عليه العمل الأخذ في الإفراد بجزء من أجزاء مائة وعشرين ، وفي الجمع بجزء من أجزاء مائتين وأربعين ، ولم يحد له آخرون حدا ، وهو اختيار
السخاوي .
[ ص: 330 ] وقد لخصت هذا النوع ، ورتبت فيه متفرقات كلام أئمة القراءات ، وهو نوع مهم يحتاج إليه القارئ ، كاحتياج المحدث إلى مثله من علم الحديث .
فائدة : ادعى
ابن خير الإجماع على أنه ليس لأحد أن ينقل حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن له به رواية ، ولو بالإجازة فهل يكون حكم القرآن كذلك ، فليس لأحد أن ينقل آية أو يقرأها ما لم يقرأها على شيخ ؟ لم أر في ذلك نقلا ، ولذلك وجه من حيث إن الاحتياط في أداء ألفاظ القرآن أشد منه في ألفاظ الحديث . ولعدم اشتراطه فيه وجه ; من حيث إن اشتراط ذلك في الحديث وإنما هو لخوف أن يدخل في الحديث ما ليس منه أو يتقول على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله ، والقرآن محفوظ متلقى متداول ميسر ، وهذا هو الظاهر .
فائدة ثانية :
الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدي للإقراء والإفادة ، فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك وإن لم يجزه أحد ، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح ، وكذلك في كل علم ، وفي الإقراء والإفتاء ، خلافا لما يتوهمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطا . وإنما اصطلح الناس على الإجازة ; لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالبا من يريد الأخذ عنه من المبتدئين ونحوهم ; لقصور مقامهم عن ذلك ، والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط ، فجعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية .
فائدة ثالثة : ما اعتاده كثير من مشايخ القراء - من امتناعهم من الإجازة إلا بأخذ مال في مقابلها - لا يجوز إجماعا ، بل إن علم أهليته وجب عليه الإجازة ، أو عدمها حرم عليه ، وليست الإجازة مما يقابل بالمال ، فلا يجوز أخذه عنها ، ولا الأجرة عليها .
وفي فتاوى الصدر
موهوب الجزري من أصحابنا : أنه سئل عن
شيخ طلب من الطالب شيئا على إجازته ، فهل للطالب رفعه إلى الحاكم وإجباره على الإجازة ؟ .
فأجاب : لا تجب الإجازة على الشيخ ، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها .
وسئل أيضا : عن رجل أجازه الشيخ بالإقراء ، ثم بان أنه لا دين له ، وخاف الشيخ من تفريطه ، فهل له النزول عن الإجازة ؟ فأجاب : لا تبطل الإجازة بكونه غير دين .