[ ص: 247 ] قال تعالى : (
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ( 179 ) ) .
قوله تعالى : (
ما كان الله ليذر ) : خبر كان محذوف تقديره : ما كان الله مريدا لأن يذر ، ولا يجوز أن يكون الخبر ليذر ; لأن الفعل بعد اللام ينتصب بأن ، فيصير التقدير : ما كان الله ليترك المؤمنين على ما أنتم عليه ، وخبر كان هو اسمها في المعنى ، وليس الترك هو الله تعالى وقال الكوفيون : اللام زائدة ، والخبر هو الفعل ، وهذا ضعيف ; لأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست زائدة ، وإن كان النصب بأن فسد لما ذكرنا ، وأصل يذر يوذر ، فحذفت الواو تشبيها لها بيدع ; لأنها في معناها ، وليس لحذف الواو في يذر علة إذ لم تقع بين ياء وكسرة ، ولا ما هو في تقدير الكسرة ، بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وبين ما هو في تقدير الكسرة ; إذ الأصل يودع مثل يوعد ، وإنما فتحت الدال من يدع ; لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ، ومثله يسع ويطأ ، ويقع ونحو ذلك ، ولم يستعمل من يذر ماضيا اكتفاء بترك . ( يميز ) : يقرأ بسكون الياء ، وماضيه ماز وبتشديدها ، وماضيه ميز وهما بمعنى واحد ، وليس التشديد لتعدي الفعل مثل فرح وفرحته ; لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد .
قال تعالى : (
ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير ( 180 ) ) .
قوله تعالى : (
ولا يحسبن ) : يقرأ بالياء على الغيبة ، و " الذين يبخلون " الفاعل ، وفي المفعول الأول وجهان : أحدهما : " هو " ، وهو ضمير البخل الذي دل عليه يبخلون . والثاني : هو محذوف تقديره : البخل ، و " هو " على هذا فصل .
ويقرأ : " تحسبن " بالتاء على الخطاب ، والتقدير : ولا تحسبن يا
محمد بخل الذين يبخلون فحذف المضاف ، وهو ضعيف ; لأن فيه إضمار البخل ، قبل ذكر ما يدل عليه ، وهو على هذا فصل ، أو توكيد ، والأصل في ( ميراث ) : موراث ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، والميراث مصدر كالميعاد .
[ ص: 248 ] قال تعالى : (
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( 181 ) ) .
قوله تعالى : (
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ) : العامل في موضع إن وما عملت فيه قالوا ، وهي المحكية به . ويجوز أن يكون معمولا لقول المضاف ; لأنه مصدر ، وهذا يخرج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو أصل ضعيف ويزداد هنا ضعفا ; لأن الثاني فعل ، والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى . (
سنكتب ما قالوا ) : يقرأ بالنون ، وما قالوا منصوب به . (
وقتلهم ) : معطوف عليه ، وما مصدرية ، أو بمعنى الذي ، ويقرأ بالياء ، وتسمية الفاعل ، ويقرأ بالياء على ما لم يسم فاعله ، وقتلهم بالرفع وهو ظاهر . ( ونقول ) : بالنون والياء .
قال تعالى : (
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 182 ) ) .
قوله تعالى : (
ذلك ) : مبتدأ ، و " بما " خبره ; والتقدير : مستحق بما قدمت .
و ( ظلام ) : فعال من الظلم . فإن قيل : بناء فعال للتكثير ، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل ، فلو قال بظالم لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره .
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن فعالا قد جاء لا يراد به الكثرة كقول طرفة .
ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترفد القوم أرفد .
لا يريد هاهنا أنه قد يحل التلاع قليلا ; لأن ذلك يدفعه قوله : متى يسترفد القوم أرفد ، وهذا يدل على نفي البخل في كل حال ، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادته الكثرة ، والثاني : أن ظلام هنا للكثرة ، لأنه مقابل للعباد ، وفي العباد كثرة ، وإذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا .
والثالث : أنه إذا نفى الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة ; لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر ، كان للظلم القليل المنفعة أترك .
[ ص: 249 ] وفيه وجه رابع : وهو أن يكون على النسب ; أي لا ينسب إلى الظلم فيكون من بزاز وعطار .