قال تعالى : (
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ( 61 ) ) .
قوله تعالى : (
يخرج لنا مما تنبت الأرض ) : مفعول يخرج محذوف تقديره شيئا مما تنبت الأرض .
و " ما " : بمعنى الذي ، أو نكرة موصوفة ، ولا تكون مصدرية ; لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات ; لأن الإنبات مصدر ، والمحذوف جوهر .
( من بقلها ) : من هنا لبيان الجنس ، وموضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره : مما تنبته الأرض كائنا من بقلها ، ويجوز أن يكون بدلا من ما الأولى بإعادة حرف الجر ، والقثاء بكسر القاف وضمها لغتان . وقد قرئ بهما ; والهمزة أصل لقولهم أقثأت الأرض ، واحدته قثاءة . (
أدنى ) : ألفه منقلبة عن واو ; لأنه من دنا يدنو إذا قرب . وله معنيان : أحدهما : أن يكون المعنى ما تقرب قيمته لخساسته ، ويسهل تحصيله .
والثاني : أن يكون بمعنى القريب منكم لكونه في الدنيا .
[ ص: 61 ] و (
الذي هو أدنى ) : ما كان من امتثال أمر الله ; لأن نفعه متأخر إلى الآخرة .
وقيل الألف مبدلة من همزة ; لأنه مأخوذ من دنؤ يدنؤ فهو دنيء ، والمصدر الدناءة ، وهو من الشيء الخسيس ، فأبدل الهمزة ألفا كما قال : " لا هناك المرتع " .
وقيل أصله أدون ، من الشيء الدون ، فأخر الواو فانقلبت ألفا ، فوزنه الآن أفلع .
(
اهبطوا ) : الجيد كسر الباء ، والضم لغة ، وقد قرئ به (
مصرا ) : نكرة ، فلذلك انصرف ، والمعنى اهبطوا بلدا من البلدان ، وقيل هو معرفة ، وانصرف لسكون أوسطه وترك الصرف جائز ، وقد قرئ به ، وهو مثل هند ، ودعد ، والمصر في الأصل هو الحد بين الشيئين .
(
ما سألتم ) : ما في موضع نصب اسم إن ، وهي بمعنى الذي ، ويضعف أن تكون نكرة موصوفة . و ( باءوا ) : الألف في باءوا منقلبة عن واو لقولك في المستقبل يبوء .
(
بغضب ) : في موضع الحال أي رجعوا مغضوبا عليهم .
(
من الله ) : في موضع جر صفة لغضب . (
ذلك بأنهم ) : ذلك مبتدأ ، وبأنهم كانوا يكفرون الخبر ، والتقدير : ذلك الغضب مستحق بكفرهم . (
النبيين ) : أصل النبي الهمزة ; لأنه من النبأ وهو الخبر ; لأنه يخبر عن الله ، لكنه خفف بأن قلبت الهمزة ياء ، ثم أدغمت الياء الزائدة فيها . وقيل : من لم يهمز أخذه من النبوة وهو الارتفاع ; لأن رتبة النبي ارتفعت عن رتب سائر الخلق . وقيل النبي الطريق ، فالمبلغ عن الله طريق الخلق إلى الله ، وطريقه إلى الخلق .
وقد قرئ بالهمز على الأصل . (
بغير الحق ) : في موضع نصب على الحال من الضمير في يقتلون ، والتقدير : يقتلونهم مبطلين ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره : قتلا بغير الحق ، وعلى كلا الوجهين هو توكيد . (
عصوا ) : أصله عصيوا ، فلما تحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا ، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين ، وبقيت الفتحة تدل عليها ، والواو هنا تدغم في الواو التي بعدها ; لأنها مفتوح ما قبلها فلم يكن فيها مد يمنع من الإدغام ، وله في القرآن نظائر ، كقوله : فقد اهتدوا وإن تولوا فإن انضم ما قبل
[ ص: 62 ] هذه الواو نحو : آمنوا وعملوا لم يجز إدغامها ; لأن الواو المضموم ما قبلها يطول مدها ، فيجرى مجرى الحاجز بين الحرفين .
قال تعالى : (
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( 63 ) ) .
قوله تعالى : (
والصابئين ) : يقرأ بالهمز على الأصل ، وهو من صبأ يصبأ إذا مال ، ويقرأ بغير همز ، وذلك على قلب الهمزة ألفا في صبا ، وعلى قلبها ياء في صابي ، ولما قلبها ياء حذفها من أجل ياء الجمع .
والألف في هادوا منقلبة عن واو ; لأنه من هاد يهود إذا تاب ومنه قوله تعالى : "
إنا هدنا إليك " ، ويقال هو من الهوادة ، وهو الخضوع ، ويقال أصلها ياء من هاد يهيد إذا تحرك : من آمن من هنا شرطية في موضع مبتدأ والخبر آمن ، والجواب : فلهم أجرهم والجملة خبر إن الذين ، والعائد محذوف تقديره : من آمن منهم .
ويجوز أن يكون من بمعنى الذي غير جازمة ، ويكون بدلا من اسم إن ، والعائد محذوف أيضا ، وخبر إن : فلهم أجرهم .
وقد حمل على لفظ من آمن وعمل ، فوحد الضمير ، وحمل على معناها : " فلهم أجرهم " فجمع . و (
أجرهم ) : مبتدأ ، ولهم خبره ، وعند
الأخفش أن أجرهم مرفوع بالجار و ( عند ) : ظرف ، والعامل فيه معنى الاستقرار .
ويجوز أن يكون عند في موضع الحال من الأجر ، تقديره : فلهم أجرهم ثابتا عند . " ربهم " والأجر في الأصل مصدر يقال أجره الله يأجره أجرا ، ويكون بمعنى المفعول به ; لأن الأجر هو الشيء الذي يجازى به المطيع فهو مأجور به .