قال تعالى : (
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ( 259 ) ) .
قوله تعالى : (
أو كالذي ) : في الكاف وجهان : أحدهما : أنها زائدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج ، أو الذي مر على قرية ، وهو مثل قوله : (
ليس كمثله ) [ الشورى : 11 ] .
والثاني : هي غير زائدة ، وموضعها نصب ، والتقدير : أو رأيت مثل الذي ، ودل على هذا المحذوف قوله "
ألم تر إلى الذي حاج " .
و ( أو ) : للتفصيل ، أو للتخيير في التعجب بحال أي القبيلين شاء ، وقد ذكر في قوله : (
أو كصيب ) [ البقرة : 19 ] وغيره .
وأصل القرية من قريت الماء إذا جمعته ، فالقرية مجتمع الناس .
(
وهي خاوية ) : في موضع جر صفة لقرية .
(
على عروشها ) : يتعلق بخاوية ; لأن معناه واقعة على سقوفها .
وقيل : هو بدل من القرية ; تقديره : مر على قرية على عروشها ; أي مر على عروش القرية ; وأعاد حرف الجر مع البدل .
ويجوز أن يكون على عروشها على هذا القول صفة للقرية ، لا بدلا ; تقديره : على قرية ساقطة على عروشها ، فعلى هذا يجوز أن يكون "
وهي خاوية " حالا من العروش ، وأن يكون حالا من القرية ; لأنها قد وصفت ، وأن يكون حالا من هاء المضاف إليه ، والعامل معنى الإضافة ، وهو ضعيف ، مع جوازه .
[ ص: 169 ] (
أنى ) : في موضع نصب بيحي ، وهي بمعنى متى فعلى هذا يكون ظرفا ، ويجوز أن يكون بمعنى كيف ، فيكون موضعها حالا من هذه ، وقد تقدم لما فيه من الاستفهام . (
مائة عام ) : ظرف لأماته على المعنى ; لأن المعنى ألبثه ميتا مائة عام .
ولا يجوز أن يكون ظرفا على الظاهر ; لأن الأمانة تقع في أدنى زمان .
ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف تقديره : فأماته ، فلبث مائة عام ، ويدل على ذلك قوله "
كم لبثت " ثم قال "
بل لبثت مائة عام " .
(
كم ) : ظرف للبثت . (
لم يتسنه ) : الهاء زائدة في الوقف ، وأصل الفعل على هذا فيه وجهان : أحدهما : هو يتسنن ، من قوله : (
حمإ مسنون ) [ الحجرات : 26 ، 28 ، 33 ] فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الأخيرة ياء كما قلبت في تظنيت ، ثم أبدلت الياء ألفا ، ثم حذفت للجزم .
والثاني : أن يكون أصل الألف واوا من قولك : أسنى يسنى إذا مضت عليه السنون . وأصل سنة سنوة لقولهم سنوات .
ويجوز أن تكون الهاء أصلا ، ويكون اشتقاقه من السنة ، وأصلها سنهة ، لقولهم سنهاء ، وعاملته مسانهة ; فعلى هذا تثبت الهاء وصلا ووقفا ، وعلى الأول تثبت في الوقف دون الوصل ، ومن أثبتها في الوصل أجراه مجرى الوقف .
فإن قيل : ما فاعل يتسنى ؟ . قيل : يحتمل أن يكون ضمير الطعام والشراب لاحتياج كل واحد منها إلى الآخر بمنزلة شيء واحد ، فلذلك أفرد الضمير في الفعل .
ويحتمل أن يكون جعل الضمير لذلك ، وذلك يكنى به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد ، ويحتمل أن يكون الضمير للشراب ; لأنه أقرب إليه ، وإذا لم يتغير الشراب مع سرعة التغير إليه فأن لا يتغير الطعام أولى . ويجوز أن يكون أفرد في موضع التثنية كما قال الشاعر :
[ ص: 170 ] فكأن في العينين حب قرنفل أو سنبل كحلت به فانهلت
.
(
ولنجعلك ) : معطوف على فعل محذوف ، تقديره : أريناك ذلك لتعلم قدر قدرتنا ولنجعلك . وقيل الواو زائدة ، وقيل التقدير : ولنجعلك فعلنا ذلك .
(
كيف ننشزها ) : في موضع الحال من العظام ، والعامل في كيف ننشزها ، ولا يجوز أن تعمل فيها انظر ; لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، ولكن كيف وننشرها جميعا حال من العظام ، والعامل فيها انظر ; تقديره : انظر إلى العظام محياة .
" وننشرها " يقرأ بفتح النون وضم الشين ، وماضيه نشر ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون مطاوع أنشر الله الميت فنشر ، ويكون نشر على هذا بمعنى أنشر ، فاللازم والمتعدي بلفظ واحد .
والثاني : أن يكون من النشر الذي هو ضد الطي ; أي يبسطها بالإحياء .
ويقرأ بضم النون وكسر الشين ; أي نحييها ، وهو مثل قوله : (
إذا شاء أنشره ) [ عبس : 22 ] ويقرأ بالزاي ; أي نرفعها وهو من النشز ; وهو المرتفع من الأرض ، وفيها على هذا قراءتان : ضم النون ، وكسر الشين من أنشزته .
وفتح النون وضم الشين وماضيه نشزته ، وهما لغتان .
و (
لحما ) : مفعول ثان . (
قال أعلم ) : يقرأ بفتح الهمزة واللام ، على أنه أخبر عن نفسه .
ويقرأ بوصل الهمزة على الأمر ، وفاعل قال : الله وقيل : فاعله عزيز ، وأمر نفسه كما يأمر المخاطب ، كما تقول لنفسك اعلم يا عبد الله ، وهذا يسمى التجريد .
وقرئ بقطع الهمزة وفتحها وكسر اللام ، والمعنى أعلم الناس .