ثم إن القراء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا وخلفهم أمم بعد أمم ، عرفت طبقاتهم ، واختلفت صفاتهم ، فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف ، وكثر بينهم لذلك الاختلاف ، وقل الضبط ، واتسع الخرق ، وكاد الباطل يلتبس بالحق ، فقام جهابذة علماء الأمة ، وصناديد الأئمة ، فبالغوا في الاجتهاد وبينوا الحق المراد ،
وجمعوا الحروف والقراءات ، وعزوا الوجوه والروايات ، وميزوا بين المشهور والشاذ ، والصحيح والفاذ ، بأصول أصلوها ، وأركان فصلوها ، وها نحن نشير إليها ونعول كما عولوا عليها فنقول :
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها ، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها ، سواء كانت عن الأئمة السبعة ، أم عن العشرة ، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين ، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة ، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم ، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف ، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني ، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب ، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي ، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه .
( قال أبو شامة ) - رحمه الله - في كتابه " المرشد الوجيز " : فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة
[ ص: 10 ] تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وإن هكذا أنزلت ، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط ، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم ، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة ، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا عمن تنسب إليه ، فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم .
( قلت ) : وقولنا في الضابط ولو بوجه نريد به وجها من وجوه النحو ، سواء كان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه ، أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح ، إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم ، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية ، فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم ، بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها كإسكان ( بارئكم ) و ( يأمركم ) ونحوه ، و ( سبأ ) و ( يا بني ) ، ( ومكر السيئ ) و ( ننجي المؤمنين ) في الأنبياء ، والجمع بين الساكنين في تاءات البزي وإدغام أبي عمرو ( واسطاعوا ) لحمزة وإسكان ( نعما ويهدي ) ، وإشباع الياء في ( نرتعي ، ويتقي ويصبر ) و ( أفئيدة من الناس ) ، وضم الملائكة اسجدوا ، ونصب ( كن فيكون ) ، وخفض ( والأرحام ) ، ونصب ( ليجزى قوما ) ، والفصل بين المضافين في الأنعام ، وهمز ( سأقيها ) ، ووصل ( وإن الياس ) ، وألف ( إن هذان ) ، وتخفيف ( ولا تتبعان ) ، وقراءة ( ليكة ) في الشعراء و " ص " وغير ذلك .
( قال الحافظ أبو عمرو الداني ) في كتابه " جامع البيان " بعد ذكر إسكان (
بارئكم ) و (
يأمركم ) لأبي عمرو وحكاية إنكار سيبويه له فقال أعني الداني : والإسكان أصح في النقل وأكثر في الأداء وهو الذي أختاره وآخذ به ، ثم لما ذكر نصوص رواته قال : وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة
[ ص: 11 ] والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة ; لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها .
قلنا : ونعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتا في بعضها دون بعض كقراءة ابن عامر ( قالوا اتخذ الله ولدا ) في البقرة بغير واو ، و
بالزبر وبالكتاب المنير بزيادة الباء في الاسمين ونحو ذلك ، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي ، وكقراءة ابن كثير جنات تجري من تحتها الأنهار في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة ( من ) ، فإن ذلك ثابت في المصحف المكي ، وكذلك
فإن الله هو الغني الحميد .
في سورة الحديد بحذف ( هو ) ، وكذا ( سارعوا ) بحذف الواو ، وكذا ( منهما منقلبا ) بالتثنية في الكهف ، إلى غير ذلك من مواضع كثيرة في القرآن اختلفت المصاحف فيها فوردت القراءة عن أئمة تلك الأمصار على موافقة مصحفهم ، فلو لم يكن ذلك كذلك في شيء من المصاحف العثمانية لكانت القراءة بذلك شاذة لمخالفتها الرسم المجمع عليه ، ( وقولنا ) بعد ذلك ولو احتمالا نعني به ما يوافق الرسم ولو تقديرا ، إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقا وهو الموافقة الصريحة ، وقد تكون تقديرا وهو الموافقة احتمالا ، فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعا نحو : ( السموات و الصلحت واليل والصلوة و الزكوة و الربوا ) ، ونحو ( لنظر كيف تعملون ) ( وجيء ) في الموضعين حيث كتب بنون واحدة وبألف بعد الجيم في بعض المصاحف ، وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقا ، ويوافقه بعضها تقديرا ، نحو ( ملك يوم الدين ) فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف ، فقراءة الحذف تحتمله تخفيفا كما كتب
ملك الناس ، وقراءة الألف محتملة تقديرا كما كتب
مالك الملك ، فتكون الألف حذفت اختصارا ، وكذلك ( النشاة ) حيث كتبت بالألف وافقت قراءة المد تحقيقا ووافقت قراءة القصر تقديرا ، إذ يحتمل أن تكون الألف صورة الهمزة على غير القياس كما كتب
موئلا ، وقد توافق اختلافات القراءات الرسم تحقيقا نحو
[ ص: 12 ] أنصار الله ، و
نادته الملائكة ، و
يغفر لكم و
يعملون و
هيت لك ونحو ذلك مما يدل تجرده عن النقط والشكل وحذفه وإثباته على فضل عظيم للصحابة - رضي الله عنهم - في علم الهجاء خاصة ، وفهم ثاقب في تحقيق كل علم ، فسبحان من أعطاهم وفضلهم على سائر هذه الأمة .
( ولله در الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ) حيث يقول في وصفهم في رسالته التي رواها عنه الزعفراني ما هذا نصه : وقد أثنى الله - تبارك وتعالى - على أصحاب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - في القرآن والتوراة والإنجيل ، وسبق لهم على لسان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - من الفضل ما ليس لأحد بعدهم ، فرحمهم الله وهنأهم بما أثابهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين ، أدوا إلينا سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاهدوه والوحي ينزل عليه ، فعلموا ما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا .
( قلت ) : فانظر كيف كتبوا
الصراط و المصيطرون بالصاد المبدلة من السين ، وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان ، وتكون قراءة الإشمام محتملة ، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم والأصل ، ولذلك كان الخلاف في المشهور في
بسطة الأعراف دون
بسطة البقرة ; لكون حرف البقرة كتب بالسين وحرف الأعراف بالصاد ، على أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة مستفاضة ، ألا ترى أنهم لم يعدوا إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء تسئلني في الكهف ، وقراءة ( وأكون من الصالحين ) والظاء من
بضنين ونحو ذلك من مخالفة الرسم المردود ، فإن الخلاف
[ ص: 13 ] في ذلك يغتفر ، إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد وتمشيه صحة القراءة وشهرتها وتلقيها بالقبول ، وذلك بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى ولو كانت حرفا واحدا من حروف المعاني ، فإن حكمه في حكم الكلمة لا يسوغ مخالفة الرسم فيه ، وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته ، ( وقولنا ) وصح سندها ، فإنا نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي ، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم ، وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف فيه بصحة السند ، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، وإن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن ، وهذا ما لا يخفى ما فيه ، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا ، سواء وافق الرسم أم خالفه وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم وقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ، ثم ظهر فساده وموافقة أئمة السلف والخلف .
( قال ) الإمام الكبير أبو شامة في " مرشده " : وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين أن القراءات السبع كلها متواترة ، أي كل فرد فرد ما روي عن هؤلاء الأئمة السبعة ، قالوا والقطع بأنها منزلة من عند الله واجب ونحن بهذا نقول ، ولكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض ، فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها .
( وقال ) الشيخ أبو محمد إبراهيم بن عمر الجعبري أقول : الشرط واحد وهو صحة النقل ، ويلزم الآخران فهذا ضابط يعرف ما هو من الأحرف السبعة وغيرها ، فمن أحكم معرفة حال النقلة وأمعن في العربية وأتقن الرسم انحلت له هذه الشبهة .