لاهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك [ ص: 314 ] لا يغلبن صليبهم
ومحالهم غدوا محالك
فلم يزل ثابتا حتى أهلك الله تبارك وتعالى الفيل وأصحابه ، فرجعت قريش وقد عظم فيهم بصبره ، وتعظيمه محارم الله ، فبينا هو على ذلك ولد له أكبر بنيه ، فأدرك ، وهو الحارث بن عبد المطلب . فأتي عبد المطلب في المنام فقيل له : احفر زمزم ، خبيئة الشيخ الأعظم قال : فاستيقظ ، فقال : اللهم بين لي ، فأري في المنام مرة أخرى : احفر زمزم تكتم بين الفرث والدم في مبحث الغراب في قرية النمل ، مستقبلة الأنصاب الحمر قال : فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام ينظر ما خبئ له من الآيات ، فنحرت بقرة بالحزورة ، فأفلتت من جازرها بحشاشة [ ص: 315 ] نفسها ، حتى غلبها الموت في المسجد في موضع زمزم ، فجزرت تلك البقرة في مكانها ، حتى احتمل لحمها ، فأقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث ، فبحث في قرية النمل ، فقام عبد المطلب يحفر هنالك ، فجاءته قريش فقالوا لعبد المطلب : ما هذا الصنيع ؟ لم نكن نزنك بالجهل ، لم تحفر في مسجدنا ؟ فقال عبد المطلب : إني لحافر هذه البئر ، ومجاهد من صدني عنها ، فطفق يحفر هو وابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره ، فيسعى عليهما ناس من قريش ، فينازعونهما ، ويقاتلونهما ، وينهى عنه الناس من قريش لما يعلمون من عتق نسبه ، وصدقه ، واجتهاده في دينه يومئذ ، حتى إذا أمكن الحفر ، واشتد عليه الأذى ، نذر إن وفي له بعشرة من الولدان ينحر أحدهم ، ثم حفر حتى أدرك سيوفا دفنت في زمزم ، فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف فقالوا لعبد المطلب : أحذنا مما وجدت ، فقال عبد المطلب : بل هذه السيوف لبيت [ ص: 316 ] الله ، ثم حفر حتى أنبط الماء ، فحفرها في القرار ثم بحرها حتى لا تنزف ، ثم بنى عليها حوضا ، وطفق هو وابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض ، فيشرب منه الحاج ، فيكسره ناس من حسدة قريش بالليل ، ويصلحه عبد المطلب حين يصبح ، فلما أكثروا إفساده ، دعا عبد المطلب ربه ، فأري في المنام ، فقيل له : قل : اللهم إني لا أحلها لمغتسل ، ولكن هي لشارب حل وبل ، ثم كفيتهم ، فقام عبد المطلب حين أجفلت قريش بالمسجد ، فنادى بالذي أري ، ثم انصرف ، فلم يكن يفسد عليه حوضه أحد من قريش إلا رمي بداء في جسده ، حتى تركوا له حوضه ذلك ، وسقايته ، ثم تزوج عبد المطلب النساء فولد له عشرة رهط ، فقال : اللهم إني كنت نذرت لك نحر أحدهم ، وإني أقرع بينهم ، فأصب بذلك من شئت ، فأقرع بينهم ، فصارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب ، وكان أحب ولده إليه ، فقال : اللهم هو أحب إليك أو مائة من الإبل ؟ قال : ثم أقرع بينه وبين مائة من الإبل [ ص: 317 ] فصارت القرعة على مائة من الإبل فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله ، وكان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط ، فخرج يوما على نساء من قريش مجتمعات ، فقالت امرأة منهن : يا نساء قريش أيتكن يتزوجها هذا الفتى فنصطت النور الذي بين عينيه ، - قال : [ وكان ] بين عينيه نور - فتزوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجمعها فالتقت ، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعث عبد المطلب عبد الله بن عبد المطلب يمتار له تمرا من يثرب فتوفي عبد الله بها ، وولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان في حجر عبد المطلب ، فاسترضعه امرأة من بني سعد بن بكر ، فنزلت به التي ترضعه سوق عكاظ ، فرآه كاهن من الكهان ، فقال : يا أهل عكاظ ، اقتلوا هذا الغلام ، فإن له ملكا ، فراعت به أمه التي ترضعه ، فنجاه الله ، ثم شب عندها ، حتى إذا سعى وأخته من الرضاعة تحضنه ، فجاءته أخته من أمه التي ترضعه فقالت : أي أمتاه ، إني رأيت رهطا أخذوا أخي آنفا ، فشقوا بطنه ، فقامت أمه التي [ ص: 318 ] ترضعه فزعة ، حتى أتته ، فإذا هو جالس منتقعا لونه ، لا ترى عنده أحدا ، فارتحلت به ، حتى أقدمته على أمه ، فقالت لها : اقبضي عني ابنك ، فإني قد خشيت عليه ، فقالت أمه : لا والله ، ما بابني [ ما ] تخافين ، لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج نور مني أضاءت منه قصور الشام ، ولقد ولدته حين ولدته ، فخر معتمدا على يديه ، رافعا رأسه إلى السماء ، فافتصلته أمه وجده عبد المطلب ثم توفيت أمه ، فهم في حجر جده ، فكان - وهو غلام - يأتي وسادة جده ، فيجلس عليها ، فيخرج جده وقد كبر ، فتقول الجارية التي تقوده : انزل عن وسادة جدك ، فيقول عبد المطلب : دعي ابني فإنه محسن بخير ، ثم توفي جده ورسول الله صلى الله عليه وسلم غلام ، فكفله أبو طالب ، وهو أخو عبد الله لأبيه وأمه ، فلما ناهز الحلم ، ارتحل به أبو طالب تاجرا قبل الشام ، فلما نزلا تيماء رآه حبر من يهود تميم ، فقال لأبي طالب : ما هذا الغلام منك ؟ فقال : هو ابن أخي ، قال له : أشفيق أنت عليه ؟ قال : نعم قال : فوالله لئن قدمت به إلى الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا ، ليقتلنه ، إن هذا عدوهم ، فرجع أبو طالب من تيماء إلى مكة ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم ، " إن أول ما ذكر من أجمرت امرأة الكعبة ، فطارت شرارة [ ص: 319 ] من مجمرها في ثياب الكعبة فأحرقتها ، ووهت ، فتشاورت قريش في هدمها ، وهابوا هدمها ، فقال لهم الوليد بن المغيرة : ما تريدون بهدمها ؟ الإصلاح تريدون أم الإساءة ؟ فقالوا : بل الإصلاح قال : فإن الله لا يهلك المصلح قالوا : فمن الذي يعلوها فيهدمها ؟ قال الوليد : أنا أعلوها ، فأهدمها ، فارتقى الوليد بن المغيرة على ظهر البيت ، ومعه الفأس ، فقال : اللهم إنا لا نريد إلا الإصلاح ، ثم هدم ، فلما رأته قريش قد هدم منها ، ولم يأتهم ما خافوا من العذاب ، هدموا معه ، حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن ، اختصمت قريش في الركن ، أي القبائل ترفعه ؟ حتى كاد يشجر بينهم فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة ، فاصطلحوا على ذلك ، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة ، فحكموه ، فأمر بالركن ، فوضع في ثوب ، ثم أمر بسيد كل قبيلة فأعطاه بناحية الثوب ، ثم ارتقى ورفعوا إليه الركن ، فكان هو يضعه . ثم طفق لا يزداد فيهم بمر السنين إلا رضا ، حتى سموه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي ، ثم طفقوا لا ينحرون جزورا لبيع إلا دروه فيدعو لهم فيها .لا تزهدي خديج في محمد جلد يضيء كضياء الفرقد