وأفاد الخطيب أن اسم الرجل القائل لابن عمر يزيد بن بشر السكسكي ، وفيه إفادة أن رواية حنظلة ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر في البخاري بتقديم الحج مروية بالمعنى ، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجالس أو حضر ذلك ونسيه ، وتجويز أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين ونسي أحدهما عند رده على الرجل بعيد ، لأن تطرق النسيان إلى الراوي أولى من الصحابي ، كيف ! وفي مسلم من طريق حنظلة المذكورة بتقديم الصوم على الحج ، فدل على أنه رواه بالمعنى ، ويؤيده أنه عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة فيقال : إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه ، هذا بعيد كما في فتح الباري .
وشرع الصيام لفوائد ؛ أعظمها كسر النفس وقهر الشيطان ، فالشبع نهر في النفس يرده الشيطان ، والجوع نهر في الروح ترده الملائكة .
ومنها : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره على ما منع منه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح ، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من منع ذلك على الإطلاق ، فيوجب ذلك شكر نعم الله عليه بالغنى ، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك ، وذكر بعض الصوفية أن آدم لما تاب من أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما فلما صفا جسده منها تيب عليه ، ففرض على ذريته صيام ثلاثين يوما ، قال الحافظ : وهذا يحتاج إلى ثبوت السند فيه إلى من يقبل قوله في ذلك ، وهيهات وجدان ذلك ، ا هـ .
وهو لغة الإمساك عن أي شيء قولا كقوله : إني نذرت للرحمن صوما ( سورة مريم : الآية 26 ) أي : إمساكا وسكوتا أو فعلا كقول النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي : ممسكة عن الحركة ، وشرعا : إمساك عن المفطر على وجه مخصوص .
وقال الطيبي : إمساك المكلف بالنية من الخيط الأبيض إلى الخيط الأسود عن تناول الأطيبين والاستمناء ، فهو وصف سلبي ، وإطلاق العمل عليه تجوز ، انتهى .
ويقع في بعض النسخ زيادة : والاعتكاف [ ص: 225 ] وليلة القدر ، مع أنه ترجم لهما بعد ذلك ، فإن صح عن الإمام ذلك هنا ، فلعله للإشارة إلى أن الصيام شرط في صحة الاعتكاف كما هو مذهبه رحمه الله ، وليلة القدر ؛ لكونها غالبا برمضان .
( بسم الله الرحمن الرحيم ) ابتدأ بها تبركا وتفننا ، فأخرها عن ترجمة كتاب الصيام وقدمها في الزكاة ، وكفى بالتفنن نكتة وفي نسخ تقديمها على الترجمة .
الأكثر أن الهلال القمر في حالة خاصة ، قال الأزهري : يسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالا ، وفي ليلة ست وسبع وعشرين أيضا هلالا ، وما بين ذلك يسمى قمرا .
وقال الجوهري : الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك ، وقيل : الهلال هو الشهر بعينه ، وتعبير الإمام برمضان إيماء إلى جواز ذكره بدون شهر ، قال الباجي : وهو الصواب فقد جاء ذلك في أحاديث صحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352600إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء " الحديث .
وبالفرق قال كثير من الشافعية ، قال النووي : والمذهبان فاسدان لأن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت فيه نهي ، ولا يصح قولهم : أنه اسم من أسماء الله ؛ لأنه جاء فيه أثر ضعيف ، وأسماء الله توقيفية لا تطلق إلا بدليل صحيح ، ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهة ، والصواب ما ذهب إليه المحققون أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة .
وفرق بعض العلماء بين ما قبل الزوال وما بعده ، وخالف الشيعة الإجماع فأوجبوه مطلقا ، وظاهره أيضا النهي عن ابتداء صوم رمضان قبل رؤية الهلال فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها .
قال الباجي : مقتضاه مع صوم آخر شعبان يريد على معنى التلقي لرمضان أو الاحتياط ، وأما نفلا فيجوز .
وروى أبو داود وابن حبان ، nindex.php?page=hadith&LINKID=10352607عن ابن عمر قال : " تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه " ، وهذا أشهر قولي الشافعي عند أصحابه وأصحهما ، لكن آخر قوليه أنه لا بد من عدلين ، قال في الأم : لا يجوز على هلال رمضان إلا شاهدان ، ولا يثبت شوال بواحد عند الجميع إلا أبا ثور ، ( فإن غم عليكم ) بضم الغين المعجمة وشد الميم ؛ أي : حال بينكم وبين الهلال غيم في صومكم أو فطركم ( فاقدروا له ) بهمزة وصل وضم الدال تأكيد لقوله : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352602لا تصوموا حتى تروا الهلال " إذ المقصود حاصل به ، وقد أورثت هذه الزيادة المؤكدة عند المخالف شبهة بحسب تفسيره لقوله : فاقدروا له ، فقال الأئمة الثلاثة والجمهور : معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما ، يقال : قدرت الشيء وأقدرته وقدرته بمعنى التقدير ؛ أي : انظروا في أول الشهر واحسبوا ثلاثين يوما كما جاء مفسرا في الحديث اللاحق ، ولذا أتى به الإمام للإشارة إلى أنه مفسر ، ولذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا ، وتارة يذكر هذا ، وقالت طائفة : معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب ، وبه قال أحمد وغيره ممن يجوز صوم ليلة الغيم عن رمضان .
وقال ابن سريج : معناه قدروه بحسب المنازل ، [ ص: 227 ] وكذا قاله ابن قتيبة من المحدثين ومطرف بن عبد الله من التابعين .
قال ابن عبد البر : لا يصح عن مطرف ، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا ، قال : ونقله ابن خويزمنداد عن الشافعي ، والمعروف عنه مثل الجمهور .
ونقل الباجي هذا التفسير عن الداودي وقال : لا يعلم أحد قاله إلا بعض أصحاب الشافعي أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين ، والإجماع حجة عليهم ، فإن فعل ذلك أحد رجع إلى الرؤية ولم يعتد بما صام على الحساب ، فإن اقتضى ذلك قضاء شيء من صومه قضاه .
وسبقه إلى ذلك ابن المنذر ؛ فقال : صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة ، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ، ولم يفصل بين حاسب وغيره ، فمن فرق بينهما كان محجوجا بالإجماع قبله .
ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله : " فاقدروا له " خطاب لمن خصه الله بهذا العلم .
وأن قوله ولتكملوا العدة ( سورة البقرة : الآية 185 ) خطاب للعامة .
قال ابن العربي : فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال ؛ يجب على قوم بحساب الشمس والقمر ، وعلى آخرين بحساب العدد ، وهذا بعيد عن النبلاء ، انتهى . بل هو تحكم محجوج بالإجماع .
وقال ابن الصلاح : معرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلة ، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته آحاد ، فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه مراقب النجوم ، وهذا هو الذي أراده ابن سريج ، وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه ، ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوبه بل بجوازه .
وقال المازري : احتج من قال معناه بحساب المنجمين بقوله تعالى : وبالنجم هم يهتدون ( سورة النحل : الآية 16 ) والآية عند الجمهور محمولة على الاهتداء في السير في البر والبحر ، قالوا : ولا يصح أن المراد حساب المنجمين ؛ لأن الناس لو كلفوا ذلك لشق عليهم ، لأنه لا يعرفه إلا أفراد ، والشرع إنما يكلف الناس بما يعرفه جماهيرهم ، وأيضا فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة ، ويصح أن يرى في إقليم دون آخر فيؤدي ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها مع كون الصائمين منهم لا يصومون على طريق مقطوع به ، ولا يلزم قوما ما ثبت عند غيرهم ، والشهر على مذهب الجمهور مقطوع به لقوله : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352608الشهر تسع وعشرون فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " فالتسع وعشرون مقطوع بها ، وإن غم كمل ثلاثين وهي غايته .
وقال النووي : عدم البناء على حساب المنجمين ؛ لأنه حدس وتخمين ، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت ، قال : وفيه دليل لمالك والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك ، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم ، وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة ، ومسلم عن يحيى كلاهما ، عن مالك به .