وقال الحسن : يجب عليه العود للميقات ، فإن لم يعد حتى تم حجه رجع للميقات وأهل منه بعمرة .
قال ابن عبد البر : وهذه الأقاويل الثلاثة شاذة ضعيفة ، فلو رجع للميقات قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم عند الجمهور ، قال مالك : بشرط أن لا يبعد ، وأبو حنيفة بشرط أن يعود ملبيا ، وقال أحمد : لا يسقط ، وهذا فيمن لم يكن بين يديه ميقاته .
فأما كمصري وشامي أراد النسك فمر بالمدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ، ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي ، فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور ، وقول النووي : بلا خلاف .
قال الأبي والولي العراقي والحافظ : لعله أراد في مذهب الشافعي وإلا فالمعروف عند المالكية أن الشامي مثلا إذا جاوز ذا الحليفة بلا إحرام إلى ميقاته الأصلي وهو الجحفة جاز له ذلك ، وإن كان الأفضل خلافه ، وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية كذا قالوا ، ولا يصح الاعتذار مع وجود قول هذين من الشافعية ، قال عياض : فيه رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته في توقيت هذه المواقيت ، فجعل الأمر لأهل الآفاق بالقرب ، ولأهل المدينة أبعد المواقيت لأنها أقرب الآفاق إلى مكة ، قال : وقال بعض علمائنا في المواقيت حجة لنا أن أقل ما تقصر فيه الصلاة سفر يوم وليلة ، لأنه أقل مقادير المواقيت لأهل الآفاق والمسافرين حتى يمر بهم سفر وهم محرمون ، وذلك أن قرن أقرب المواقيت من مكة على يوم وليلة ، وفيه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم وهو ما تضمنه توقيت الجحفة لأهل الشام من الإشارة إلى فتحها ، وأنها تصير دار الإسلام تحج المسلمون منها ، ولم تكن ذلك الوقت فتحت ولا شيء منها ، وهذا الحديث تابع فيه مالكا إسماعيل بن جعفر عند مسلم وسفيان بن عيينة عند البخاري في الاعتصام كلاهما عن ابن دينار به وزاد فذكر : العراق ، فقال - أي : ابن عمر : لم يكن عراق يومئذ ، ولأحمد عن صدقة فقال له قائل : فأين العراق ؟ فقال ابن عمر : لم يكن يومئذ عراق .
وروى الشافعي عن طاوس قال : لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق ، ولم يكن حينئذ أهل المشرق ، وكذا قال مالك في المدونة والشافعي في الأم ، فميقات ذات عرق ليس منصوصا عليه وإنما أجمع [ ص: 359 ] عليه ، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم ، ويدل له ما في البخاري أن أهل العراق أتوا عمر فوقت لهم ذات عرق ، وصحح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب أنه منصوص .
وفي مسلم من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر : nindex.php?page=hadith&LINKID=10352901ومهل أهل العراق ذات عرق إلا أنه مشكوك في رفعه لأن أبا الزبير قال : سمعت جابرا قال : سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، لكن قال ابن العراقي : قوله أحسبه أي أظنه ، والظن في باب الرواية يتنزل منزلة اليقين فليس ذلك قادحا في رفعه ، وأيضا فلو لم يصرح برفعه لا يقينا ولا ظنا فهو منزل منزلة المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي ، وإنما يؤخذ توقيفا من الشارع ، لا سيما وقد ضمه جابر إلى المواقيت المنصوص عليها ، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير فلم يشكا في رفعه .
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عائشة وعن الحارث بن عمرو السهمي قالا : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352902وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ذات عرق " ، قال الحافظ : وهذا يدل على أن للحديث أصلا ، فلعل من قال : إنه غير منصوص لم يبلغه ، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق منها لا تخلو عن مقال ، ولذا قال ابن خزيمة : روي في ذات عرق أخبار لا يثبت منها شيء عند أهل الحديث .
وقال ابن المنذر : لم نجد فيها حديثا ثابتا لكن الحديث بمجموع الطرق يقوى كما ذكرنا ، وأما من أعله بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقال ابن عبد البر : هي غفلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح لأنه علم أنها ستفتح فلا فرق بين الشام والعراق .
وبهذا أجاب الماوردي وآخرون ، لكن يظهر أن مراد ابن عمر بقوله : لم يكن عراق يومئذ ، أي لم يكن في تلك الجهة ناس مسلمون ، وسبب ذلك أنه روى الحديث بلفظ : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352903أن رجلا قال : يا رسول الله من أين تأمرنا أن نهل ؟ فأجابه : وكل جهة عينها كان من قبلها ناس مسلمون بخلاف المشرق " ، وأما ما أخرجه أبو داود والترمذي من وجه آخر عن ابن عباس : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352904أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق " ، فقد تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف ، وإن كان حفظه فقد جمع بينه وبين حديث جابر بأن ذات عرق ميقات الوجوب ، والعقيق ميقات الاستحباب لأنه أبعد من ذات عرق ، وبأن العقيق ميقات بعض العراقيين وهم أهل المداين ، والعقيق ميقات لأهل البصرة كما جاء ذلك في حديث أنس عند الطبراني وإسناده ضعيف ، وبأن ذات عرق كانت في موضع العقيق الآن ثم حولت وقربت إلى مكة ، فعلى هذا فذات عرق والعقيق شيء واحد ، ويتعين الإحرام من العقيق ولم يقل به أحد ، وإنما قالوا يستحب احتياطا ، واستدل به على أن من ليس له ميقات عليه أن يحرم إذا حاذى ميقاتا من هذه الخمسة ، ولا شك أن هذه محيطة بالحرم ، فذو الحليفة شامية ، ويلملم يمانية ، فهي تقابله وإن [ ص: 360 ] كانت إحداهما أقرب إلى مكة من الأخرى ، وقرن شرقية والجحفة غربية فهي تقابلها وإن كانت إحداهما كذلك ، وذات عرق تحاذي قرنا ، فعلى هذا لا تخلو بقعة من بقاع الأرض من أن تحاذي ميقاتا من هذه المواقيت ، ثم المحاذاة مختصة بمن ليس ميقاته أمامه كالمصري يمر ببدر وهي تحاذي ذا الحليفة فليس عليه الإحرام منها بل يؤخر إلى الجحفة ، والعقيق المذكور هنا واد يتدفق ماؤه في غور تهامة ، وهو غير العقيق الوارد في حديث : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352905أتاني آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك " يعني العقيق ، وهو بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال .