وعن الفراء نصب على المصدر وأصله لبا لك فثني على التأكيد أي إلبابا بعد إلباب ، وهذه التثنية ليست حقيقية بل للتكثير أو للمبالغة ومعناه إجابة بعد إجابة لازمة .
قال ابن الأنباري : ومثله حنانيك أي تحننا بعد تحنن .
وقيل : معنى لبيك اتجاهي وقصدي إليك مأخوذ من قولهم داري تلب دارك أي تجاهها ، وقيل : محبتي لك من قولهم امرأة لبة أي محبة ، وقيل : إخلاصي لك من قولهم حسب لباب أي خالص ، ومنه لب الطعام ولبابه ، وقيل : أنا مقيم على طاعتك من لب الرجل بالمكان أقام ، وقيل : قربا منك من الإلباب وهو القرب ، وقيل : خاضعا لك والأول أظهر وأشهر لأن المحرم مستجيب لدعائه تعالى إياه في حج بيته .
قال الزين بن المنير : وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى ، ( لبيك ) في ذكره ثلاثا إشارة إلى أن التأكيد اللفظي لا يزاد فيه على ثلاث مرات ، واتفق عليه البلغاء ، وأما تكرير ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ( سورة الرحمن : الآية 13 ) و ( ويل يومئذ للمكذبين ) ( سورة المرسلات : الآية 15 ) فليس من التأكيد في شيء .
وقال ابن عبد البر : المعنى عندي واحد لأن من فتح أراد لبيك لأن الحمد لك على كل حال ، ورد بأن التقييد ليس في الحمد بل في التلبية ، قال ابن دقيق العيد : الكسر أجود لأنه يقتضي أن الإجابة مطلقة غير معللة ، وأن الحمد والنعمة لله على [ ص: 363 ] كل حال ، والفتح يدل على التعليل كأنه قيل : أجبتك لهذا السبب ، والأول أعم فهو أكثر فائدة .
ورجح النووي الكسر وهو خلاف .
نقل الزمخشري أن الشافعي اختار الفتح ، وأبا حنيفة اختار الكسر ، وابن قدامة عن أحمد وابن عبد البر عن اختيار أهل العربية ، لكن قال في اللامع والعدة أنه إذا كسر صار للتعليل أيضا من حيث إنه استئناف جوابا عن السؤال عن العلة على ما قرر في البيان .
( والنعمة لك ) بكسر النون ، الإحسان والمنة مطلقا ، وبالفتح والتنعيم قال تعالى : ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ) ( سورة المزمل : الآية 11 ) أي التنعم في الدنيا وبالنصب على المشهور ، قال عياض : ويجوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مستقرة لك ، وجوز ابن الأنباري أن الموجود خبر المبتدأ وخبر إن هو المحذوف .
( والملك ) بالنصب أيضا على المشهور ويجوز الرفع أي كذلك أو محذوف لدلالة الخبر المتقدم عليه .
قال الزين بن المنير : قرن الحمد والنعمة وأفرد الملك لأن الحمد متعلق النعمة ولهذا يقال : الحمد لله على نعمه فجمع بينهما ، كأنه قال : لا حمد إلا لك ، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك ، ( لا شريك لك ) في ملكك ( قال ) نافع : ( وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها ) فيقول : ( لبيك لبيك لبيك ) ثلاث مرات كما في المرفوع إلا أن فيه الفصل بين الأولى والثانية بلفظ اللهم ، ( وسعديك ) قال عياض : إفرادها وتثنيتها كلبيك ، ومعناه ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة وإسعادا بعد إسعاد ولذا ثنى ، وهو من المصادر المنصوبة بفعل لا يظهر في الاستعمال ، قال الجرمي : لم يسمع سعديك مفردا ، ( والخير بيديك ) أي الخير كله بيد الله ومن فضله أي بقدرته وكرمه .
قال ابن دقيق العيد : وهذا من إصلاح المخاطبة كقوله تعالى : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) ( سورة الشعراء : الآية 80 ) ( لبيك والرغبى إليك ) ، قال المازري : يروى بفتح الراء والمد وبضم الراء مع القصر ، قال : ونظيره العلياء والعليا والنعماء والنعمى ، قال عياض : وحكى أبو علي فيه أيضا الفتح مع القصر مثل : سكرى ، ومعناها الطلب والمسألة إلى من بيده الأمر والمقصود بالعمل المستحق للعبادة .
( والعمل ) إليك أي القصد به والانتهاء به إليك ، ويحتمل أن يقدر والعمل لك قاله ابن دقيق العيد .
فإن قيل : كيف زاد ابن عمر في التلبية ما ليس منها مع أنه كان شديد التحري لاتباع السنة ، وفي حديث عند مسلم من رواية سالم عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد على هذه الكلمات أي المذكورة أولا ، أجاب الأبي بأنه رأى أن الزيادة على النص ليست نسخا ، وأن الشيء وحده كذلك هو مع غيره فزيادته لا تمنع من إتيانه بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فهم عدم القصر على أولئك الكلمات ، وأن الثواب يتضاعف بكثرة العمل ، واقتصار المصطفى بيان لأقل ما يكفي .
وأجاب الولي العراقي بأنه ليس فيه خلط السنة [ ص: 364 ] بغيرها ، بل لما أتى بما سمعه ضم إليه ذكرا آخر في معناه ، وباب الأذكار لا تحجير فيه إذا لم يؤد إلى تحريف ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الذكر خير موضوع والاستكثار منه حسن ، على أن أكثر هذا الذي زاده كان صلى الله عليه وسلم يقوله في دعاء استفتاح الصلاة ، وهو : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10352917لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك " ، انتهى .
والجوابان متقاربان .
وفي مسلم عن ابن عمر : كان عمر يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول : لبيك اللهم لبيك وسعديك إلى آخر ما زاده هنا .
قال الحافظ : فعرف أنه اقتدى بأبيه .
وأخرج ابن أبي شيبة عن المسور بن مخرمة قال : كانت تلبية عمر فذكر مثل المرفوع ، وزاد : لبيك مرغوبا ومرهوبا إليك ذا النعماء والفضل الحسن انتهى .
وقد استحب العلماء الاقتصار على تلبية الرسول واختلفوا في جواز الزيادة عليها وكراهتها ، وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم التلبية كما في حديث عمرو بن معد يكرب ثم فعلها هو ، ولم يقل : لبوا بما شئتم مما هو من جنس هذا ، بل علمهم كما علمهم التكبير في الصلاة ، فلا ينبغي أن يتعدى في ذلك شيئا مما علمه .
وأخرج الطحاوي عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع رجلا يقول : لبيك ذا المعارج ، فقال : إنه لذو المعارج وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأجاب من قال بالكراهة بأن هذا كله يدل على أن الاقتصار على تلبية الرسول أفضل لمداومته هو صلى الله عليه وسلم عليها ، وأما عدم نهيهم عن الزيادة فلئلا يتوهم المنع ، كما أن زيادته هو ما ذكر في بعض الأماكن لبيان الجواز وفيه مشروعية التلبية وهو إجماع ، وأوجبها أبو حنيفة ويجزي عنده ما في معناها من تسبيح وتهليل وسائر الأذكار كما قاله هو أن التسبيح وغيره يقوم في الإحرام بالصلاة مقام التكبير .
وقال مالك والشافعي : سنة ثم اختلفا ، فأوجب مالك في تركها الدم ولم يوجبه الشافعي ، وقال بوجوبها ابن حبيب والباجي ، وقال : قول أصحابنا سنة معناه عندي أنها ليست شرطا في صحة الحج وإلا فهي [ ص: 365 ] واجبة بدليل أن في تركها الدم فهي واجبة غير شرط فهو فرق ما بيننا وبين أبي حنيفة فإنها عنده واجبة شرطا ، ومع ذلك لا يتعين عنده لفظها بل يكفي ما في معناها من ذكر ، وهذا الحديث رواهالبخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به ، إلا أن البخاري لم يذكر زيادة ابن عمر ، وتابع مالكا الليث عند الترمذي وعبيد الله بن عمر عند ابن ماجه كلاهما عن نافع به .