اختلف في أول من بناها ، فحكى المحب الطبري : أن الله وضعها أولا لا ببناء أحد .
وللأزرقي عن علي بن الحسين : أن الملائكة بنتها قبل آدم .
ولعبد الرزاق عن عطاء : أول من بنى البيت آدم .
وعن وهب بن منبه : أول من بناه شيث بن آدم .
وقيل : أول من بناه إبراهيم ، وجزم به ابن كثير زاعما أنه أول من بناه مطلقا ، إذا لم يثبت عن معصوم أنه كان مبنيا قبله ، ويقال عليه ، ولم يثبت عن معصوم أنه أول من بناه .
وقد روى البيهقي في الدلائل ، عن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة بناء آدم لها ، ورواه الأزرقي ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، موقوفا على ابن عباس ، وحكمه الرفع ، إذ لا يقال رأيا .
وأخرج الشافعي ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : " حج آدم ، فلقيته الملائكة ، فقالوا : بر نسكك يا آدم " ، ولابن أبي حاتم ، عن ابن عمر : " أن البيت رفع في الطوفان ، فكان الأنبياء بعد ذلك يحجونه ، ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإبراهيم ، فبناه على أساس آدم ، وجعل طوله في السماء سبعة أذرع بذراعهم ، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعا بذراعهم ، وأدخل الحجر في البيت ، ولم يجعل له سقفا ، وجعل له بابا ، وحفر له بئرا عند بابه يلقى فيها ما يهدى للبيت " ، فهذه الأخبار وإن كانت مفرداتها ضعيفة ، لكن يقوي بعضها بعضا .
وروى ابن أبي شيبة ، وابن راهويه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن علي : " أن بناء إبراهيم لبث ما شاء الله أن يلبث ، ثم انهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم ، فبنته جرهم ، ثم بناه قصي بن كلاب " نقله الزبير بن بكار ، وجزم به الماوردي ، ثم قريش ، فجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا .
وفي رواية : عشرين ، ولعل راويها جبر الكسر ، ونقصوا من طولها ، ومن عرضها أذرعا أدخلوها في الحجر ، لضيق النفقة بهم ، ثم لما حوصر ابن الزبير من جهة يزيد بن معاوية تضعضعت من الرمي بالمنجنيق ، فهدمها في خلافته ، وبناها على قواعد إبراهيم ، فأعاد طولها على ما هو عليه الآن ، وأدخل من الحجر تلك الأذرع ، وجعل لها بابا آخر ، فلما قتل ابن الزبير ، شاور الحجاج عبد الملك بن مروان في نقض بناء ابن الزبير ، فكتب إليه : أما ما زاده في طولها ، فأقره ، وأما ما زاد في الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه ، ففعل كما في مسلم عن عطاء .
وذكر الفاكهي : أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها ، ولعن الحجاج ، وبقي بناء الحجاج إلى الآن .
ونقل ابن عبد البر [ ص: 446 ] وتبعه بن عياض ، وغيره أن الرشيد ، أو أباه المهدي ، أو جده المنصور أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير ، فناشده مالك وقال : أخشى أن تصير ملعبة للملوك ، فترك ، وهذا بعينه خشية جدهم الأعلى عبد الله بن عباس ، فإنه أشار على ابن الزبير لما أراد هدمها ، وتجديد بنائها بأن يرم ما وهي منها ، ولا يتعرض لها بزيادة ، ولا نقص ، وقال : لا آمن من يجيء بعدك ، فيغير الذي صنعت ، أخرجه الفاكهي .
ولم يتفق لأحد من الخلفاء ، ولا غيرهم تغيير شيء مما صنعه الحجاج إلى الآن ، إلا في الميزاب ، والباب ، وعتبته ، وكذا وقع ترميم الجدار والسقف ، وسلم السطح غير مرة ، وجدد فيها الرخام .
قال ابن جريج : أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك ، فتحصل من الآثار المذكورة أنها بنيت عشر مرات ، وذكر بعضهم أن عبد المطلب بناها بعد قصي ، وقبل بناء قريش ، قال الفاسي : ولم أر ذلك لغيره ، وأخشى أن يكون وهما ، قال : واستمر بناء الحجاج إلى يومنا هذا ، وسيبقى على ذلك إلى أن تخربها الحبشة ، وتقلها حجرا حجرا كما في الحديث .
وقد قال العلماء : إن هذا البناء لا يغير ، انتهى .
وقال الحافظ : مما تعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج في الكعبة إلا فيما صنعه الحجاج ، إما من الجدار الذي بناه في الجهة الشامية ، وإما في السلم الذي جدده للسطح ، أو للعتبة ، وما عدا ذلك فإنما هو لزيادة محضة ، كالرخام ، أو لتحسين كالباب ، والميزاب ، وكذا ما رواه الفاكهي برجال ثقات ، عن الحسن بن بكر بن حبيب السهمي ، عن أبيه - هو من كبار التابعين - قال : جاورت بمكة ، فعابت - بعين مهملة ، وموحدة - أسطوانة من أساطين البيت ، فأخرجت ، وجيء بأخرى ، ليدخلوها مكانها فطالت عن الموضع ، وأدركهم الليل ، والكعبة لا تفتح ليلا ، فتركوها ليعودوا من غد ، فيصلحوها ، فجاءوا من غد ، فأصابوها أقوم من قدح - بكسر القاف - أي سهم .
( مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ) بن عمر بن الخطاب: ( أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ) التيمي المدني أخا القاسم ، من ثقات التابعين قتل بوقعة الحرة سنة ثلاث وستين ، ( أخبر ) هو ( عبد الله بن عمر ) ، قال الحافظ : بنصب " عبد " على المفعولية ، وظاهره أن سالما كان حاضرا لذلك ، فتكون من روايته عن عبد الله بن محمد ، وبذلك صرح أبو أويس ، عن ابن شهاب ، لكنه سماه عبد الرحمن فوهم ، أخرجه أحمد ، وأغرب إبراهيم بن طهمان ، فرواه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ، أخرجه الدارقطني في غرائب مالك ، والمحفوظ الأول ، وقد رواه معمر عن الزهري عن سالم ، لكنه اختصره .
وأخرجه مسلم من رواية نافع ، عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر عن عائشة [ ص: 447 ] فتابع سالما فيه .
( عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ) ، زاد في رواية لعائشة : ( ألم تري ) - مجزوم بحذف النون - أي ألم تعرفي ؟ ( أن قومك ) : أي قريشا ، ( حين بنوا الكعبة ) قبل المبعث بخمس سنين ، كما رواه عبد الرزاق ، والطبراني ، والحاكم من حديث أبي الطفيل ، قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر ، وكانت قدر ما تفتحها العناق ، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا ، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة ، فأقبلت سفينة من الروم ، حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت ، فخرجت قريش ، ليأخذوا خشبها ، فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا ، فقدموا به ، وبالخشب ليبنوا به البيت ، فكلما أرادوا هدمه بدت لهم حية فاتحة فاها ، فبعث الله طيرا أعظم من النسر ، فغرز مخالبه فيها ، فألقاها نحوا من جياد ، فهدمت قريش الكعبة ، وبنوها بحجارة الوادي ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل الحجارة من جياد وعليه نمرة ، فضاقت عليه ، فذهب يضعها على عاتقه ، فبدت عورته من صغرها ، فنودي يا محمد خمر عورتك ، فلم ير عريانا بعد ذلك ، وكان بين ذلك ، وبين المبعث خمس سنين .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر عن الزهري ، قال : لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلم أجمرت امرأة الكعبة ، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة ، فاحترقت ، فشاورت قريش في هدمها وهابوه ، فقال الوليد : إن الله لا يهلك من يريد الإصلاح ، ثم هدم ، فلما رأوه سالما ، تابعوه .
قال عبد الرزاق : وأخبرنا ابن جرير ، قال : قال مجاهد : وكان ذلك قبل البعثة بخمس عشرة سنة ، وكذا رواه ابن عبد البر ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، وبه جزم موسى بن عقبة ، قال الحافظ : والأول أشهر ، وبه جزم ابن إسحاق ، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء .
وذكر ابن إسحاق أن السيل كان يصيب الكعبة ، فتساقط من بنائها ، وكانت رضما فوق القامة ، فأرادت قريش رفعها ، وتسقيفها ، وذلك أن نفرا سرقوا كنزها وجمع بأنه لا مانع من أن سبب البناء الأمور الثلاثة .
وللطبراني عن أبي الطفيل ، وابن عيينة في جامعه ، عن عبيد بن عمير : أن اسم النجار الذي بناها لقريش باقوم ، بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم .
ويوضحه ما لابن إسحاق ، عن عبد الله بن صفوان ، أن أبا وهب بن عايذ بن عمران بن مخزوم ، قال لقريش : لا تدخلوا من كسبكم إلا طيبا ، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس ، وعند موسى بن عقبة أن الوليد بن المغيرة ، قال : لا تجعلوا فيها مالا أخذ غصبا ، ولا قطعت فيه رحم ، ولا انتهكت فيه حرمة .
وفي رواية : لا تدخلوا في بيت ربكم إلا طيب أموالكم ، وتجنبوا الخبيث فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، فلعلهما جميعا قالا ذلك .
وروى ابن عيينة في جامعه : " أن عمر أرسل إلى شيخ من بني زهرة ، فسأله عن بناء الكعبة ، فقال : إن قريشا تقربت لبناء الكعبة ، أي بالنفقة الطيبة فعجزت ، فتركوا بعض البيت في الحجر ، فقال عمر : صدقت " .
( قالت : فقلت : يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ ) أي أسسه ، ( فقال رسول الله : لولا حدثان ) بكسر الحاء ، وسكون الدال المهملتين ، وفتح المثلثة ، فألف فنون ، مبتدأ حذف خبره وجوبا ، أي موجود يعني قرب عهد ( قومك بالكفر ، لفعلت ) أي : لرددتها على قواعد إبراهيم .
ولمسلم أيضا : أن الحارث بن عبد الله وفد على عبد الملك فقال : ما أظن أبا خبيب سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها ، قال الحارث : بلى أنا سمعته منها ، قالت : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10353016قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن قومك اقتصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك ، أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه ، فهلمي لأريك ما تركوا منه ، فأراها قريبا من سبعة أذرع ، فنكت عبد الملك ساعة بعصاه ، ثم قال : وددت أني تركته وما تحمل ، ( قال ) عبد الله بن محمد : ( فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قال عياض : ليس هذا شكا في روايتها ، فإنها من الحفظ والضبط بحيث لا يستراب فيما تنقله ، ولكن كثيرا من كلام العرب ما يأتي بصورة الشك مرادا به اليقين والتقرير ، ومنه : وإن أدري لعله فتنة لكم ( سورة الأنبياء : الآية 111 ) ، وقوله تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل ( سورة سبإ : الآية 50 ) الآية ( ما أرى ) - بضم الهمزة - أي أظن ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين ) افتعال من السلام والمراد هنا مسهما بالقبلة ، أو اليد ( اللذين يليان الحجر ) بكسر المهملة أي يقربان من الحجر ، وهو معروف على صفة نصف الدائرة ، وقدرها : تسع وثلاثون ذراعا ، وزادمعمر في روايته عن ابن شهاب : ولا طاف الناس من وراء الحجر ( إلا أن البيت ) الكعبة ( لم يتمم ) ما نقص منه ، وهما الركنان اللذان كانا في الأصل ( على قواعد إبراهيم ) ، فالموجود الآن في جهة الحجر نقص الجدار الذي بنته قريش ، فلذا لم يستلمه النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عبد الله الأبي : هذا من فقه ابن عمر ، ومن تعليل العدم بالعدم ، علل عدم الاستلام بعدم أنهما من البيت ، قال غيره : وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة فإنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم عائشة بذلك ، فكان الذي تولى بعضها ، وبناها ابن اختها عبد الله بن الزبير ، ولم ينقل عنه أنه قال ذلك لغيرها من الرجال والنساء ، ويؤيده قوله لها : فإن بدا لقومك أن يبنوه ، فهلمي لأريك ما تركوا منه . . . إلخ .
وأخرجه البخاري هنا عن القعنبي ، وفي أحاديث [ ص: 450 ] الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ، وفي التفسير ، عن إسماعيل ، ومسلم عن يحيى عن الأربعة عن مالك به ، وله متابعات ، وطرق كثيرة بزيادات في الصحيحين وغيرهما .