974 958 [ ص: 5 ] - ( مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : تكفل الله ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة : " تضمن الله " وللبخاري : " انتدب الله " وكلها بمعنى واحد ، الوعد المذكور في قوله تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) ( سورة التوبة : الآية 111 ) وذلك التحقق عن وجه الفضل منه ، سبحانه وتعالى .
( وتصديق كلماته ) قال النووي : أي كلمة الشهادتين ، وقيل تصديق كلام الله تعالى في الأخبار للمجاهدين من عظيم الثواب ، قال : والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى ( أن يدخله ) إن استشهد ( الجنة ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب ، فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح ، أو المراد يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة .
وقال تعالى : ( أحياء عند ربهم يرزقون ) ( سورة آل عمران : الآية 169 ) قاله الباجي وتبعه عياض وغيره دفعا لإيراد من قال : ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالما لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ، ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص .
( أو يرده ) عطفا على " يدخله " ، وفي رواية الأويسي " أو يرجعه " بفتح أوله والنصب ( إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر ) خالص إن لم يغنم شيئا ( أو غنيمة ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة ، والحامل عن التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له ، وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرا عند وجودها ، فالحديث صريح في عدم [ ص: 6 ] الحرمان لا في نفي الجمع .
وقال الكرماني : معناه أن المجاهد إما أن يتشهد أو لا ، والثاني لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما ، فالقضية مانعة خلو لا مانعة جمع .
وأجيب أيضا بأن أو بمعنى الواو ، وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي ، وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ ، لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواية في أنها بأو ، وكذا لمسلم عن يحيى عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ، ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو ، وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو وقال الحافظ : فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين ، لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك ، فإن كثيرا من الغزاة يرجع بلا غنيمة ، فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر ، كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معا انتهى .
وهذا الإشكال لابن دقيق العيد ، وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة . . . إلخ .
وأما إن سكت عنه فلا يتجه الإشكال ، إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالما مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر ، والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط ، مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة ، وإن حصلت فلا لم يرد الإشكال أيضا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل ، فيكون معنى قوله إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل ، وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه انتهى .
وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعا : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10353218ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم " قال الحافظ : وهذا يؤيد التأويل الأول وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم ، وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10353219فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئا " واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته ، فلو نقصت الأجر ما وقع التمدح بها ، وأيضا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلا ، مع أن أهل [ ص: 7 ] بدر أفضل باتفاق ، ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر وحكاه عياض ، وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمرو لأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما ولا يعرف فيه تجريح لأحد ، ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غيرها ، وظهور فساد هذا الوجه يغني عن رده إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ، ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضا وفيه نظر ; لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله : لا يخرجه إلا الجهاد . . . إلخ
وقال عياض : الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر .
وقال ابن دقيق العيد : لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلا في الأجر ، وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم ، يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها ، فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض ; لأن أخذها أول ما شرع كان عونا على الدين وقوة لضعفاء المسلمين ، وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو ، وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم ، فغايته أن حال أهل بدر مثلا عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها ، ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى ، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة ولا يلزم من كونهم مغفورا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى ، وأما الاعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز ، والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه ، لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب ، ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئا ألبتة .
قلت : والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل ، وإلا فالأمر على ما تقرر آخرا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدا لكونهم لم يغنموا شيئا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده ، مثال ذلك لو فرض أن أجر البدري بلا غنيمة ستمائة وأجر الأحدي مثلا بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمرو كان لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرا من الأحدي ، وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أول غزوة شهدها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار وكانت مبدأ اشتهار [ ص: 8 ] الإسلام وقوة أهله ، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل .
واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله ، فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عد ذلك كالنقص من أصل الأجر ، ولا يخفى مباينة هذا التأويل لحديث عبد الله بن عمرو ، وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة ، وذلك أن الله أعد للمجاهدين ثلاث كرامات : دنيويتان وأخروية ، فالدنيويتان : السلامة والغنيمة ، والأخروية : دخول الجنة ، فإذا رجع سالما غانما فقد حصل له ثلثا ما أعد الله وبقي له الثلث ، وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابا في مقابلة ما فاته ، فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد : إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابا ، وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معا ، وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة ؛ وإنما هي بفضل الله ، وفيه استعمال التمثيل في الأحكام ، وأن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالا وتفصيلا انتهى .
وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل ، وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به ، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم .