قال الله تعالى : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) ( سورة المائدة : الآية 6 ) أي اغتسلوا كما قال في النساء : ( ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) ( سورة النساء : الآية 43 ) قال الشافعي : في الأم : فرض الله تعالى الغسل مطلقا لم يذكر فيه شيئا يبدأ به قبل شيء فكيف ما جاء به المغتسل أجزأه إذا أتى بغسل جميع بدنه ، والاحتياط في الغسل ما روت عائشة ، ثم روى حديث الباب عن مالك بسنده قال ابن عبد البر : هو أحسن حديث روي في ذلك ، فإن لم يتوضأ قبل الغسل ولكن عم جسده ورأسه ونواه فقد أدى ما عليه بلا خلاف ، لكنهم مجمعون على استحباب الوضوء قبل الغسل .
100 98 - ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ) بالهمز ، وعوام الحديث يبدلونها ياء ( أم المؤمنين ) بنص : ( وأزواجه أمهاتهم ) ( سورة الأحزاب : الآية 6 ) وهل هن أمهات المؤمنات أيضا ؟ قولان مرجحان ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اغتسل ) أي شرع في الغسل أو أراد أن يغتسل ( من الجنابة ) أي لأجلها فمن سببية ( بدأ بغسل يديه ) قال الحافظ : يحتمل للتنظيف من مستقذر ويقويه حديث ميمونة ، ويحتمل أنه الغسل المشروع عند القيام من النوم ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام قبل أن يدخلهما في الإناء . رواه الشافعي والترمذي وزاد أيضا : ثم يغسل فرجه ، وكذا لمسلم من رواية أبي معاوية وأبي داود من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام وهي زيادة جليلة لأن بتقديم غسله يحصل الأمن من مسه في أثناء الغسل .
( ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ) احترازا عن الوضوء اللغوي وهو غسل اليدين ، وظاهره أنه يتوضأ وضوءا كاملا وهو مذهب مالك والشافعي ، قال الفاكهاني : وهو المشهور ، وقيل يؤخر غسل قدميه إلى بعد الغسل لحديث ميمونة ، وقيل إن كان موضعه وسخا أخر وإلا فلا ، وقال الحنفية : إن كان في مستنقع أخر وإلا فلا ، وظاهره [ ص: 192 ] أيضا مشروعية التكرار ثلاثا وهو كذلك ، لكن قال عياض : لم يأت في شيء من الروايات في وضوء الغسل ذكر التكرار ، وقد قال بعض شيوخنا : إن التكرار في الغسل لا فضيلة فيه ، ورده الحافظ بأنه ورد من طرق صحيحة أخرجها النسائي والبيهقي من طريق أبي سلمة nindex.php?page=hadith&LINKID=10351133عن عائشة أنها وصفت غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة الحديث وفيه : " ثم تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا " وتعقبه الأبي أيضا بأن إحالتها على وضوء الصلاة يقتضي التثليث ولا يلزم منه أنه لا فضيلة في عمل الغسل أن لا يكون في وضوئه ، ومن شيوخنا من كان يفتي سائله بالتكرار ، وقيل معنى التشبيه أنه يكتفي بغسلهما في الوضوء عن إعادته وعليه فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو ، وإنما قدم غسل أعضاء الوضوء تشريفا لها وليحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى .
قال ابن عبد البر : وأجمعوا على أنه ليس عليه أن يعيد غسل أعضاء الوضوء في غسله لأنه قد غسلها في وضوئه ، وإنما بدأ الأعضاء خاصة للسنة لأنه ليس في الغسل رتبة ، وكذا قال ابن بطال ، قال الحافظ : وهو مردود فقد ذهب أبو ثور وداود وجماعة إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للحدث اه .
وأورد ابن دقيق العيد أن الحديث يدل على أن هذه الأعضاء مغسولة عن الجنابة إذ لو كانت للوضوء لم يصح التشبيه لعدم المغايرة ، وأجاب بحصول المغايرة من حيث إنه شبه الوضوء الواقع في ابتداء غسل الجنابة بالوضوء للصلاة المعتاد المنفرد بنفسه في غير الغسل ، وبأن وضوء الصلاة له صورة معنوية ذهنية فشبه هذا الفرد الواقع في الخارج بتلك الصورة المعهودة في الذهن .
( ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها ) أي أصابعه التي أدخلها في الإناء ( أصول شعره ) أي شعر رأسه لرواية حماد بن سلمة عن هشام عند البيهقي : يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتبع بها أصول الشعر ثم يغسل شق رأسه الأيسر كذلك .
وقال القاضي عياض : احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله : أصول شعره وإما بالقياس على شعر الرأس ، وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة ومباشرة الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به ، ثم هذا التخلل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر ملبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله .
وفي رواية مسلم ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر .
وللترمذي والنسائي من طريق ابن عيينة : ثم يشرب شعره الماء .
( ثم يصب ) ذكرته بلفظ المضارع وما قبله بلفظ الماضي وهو الأصل لإرادة استحضار صورة الحال للسامعين ، ( على رأسه ثلاث غرفات بيديه ) بفتح الراء جمع غرفة على المشهور في جمع القلة ، والأصل في مميز الثلاثة [ ص: 193 ] أن يكون من جموع القلة ، ووقع لرواة البخاري غرف جمع كثرة إما لقيامه مقام جمع القلة أو بناء على قول الكوفيين أنه جمع قلة كعشر سور وثماني حجج ، والتثليث خاص بالرأس كما هو مدلول رأسه وهو المشهور عند المالكية ، قال القرطبي : وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية ابن القاسم عن عائشة أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس .
( ثم يفيض ) أي يسيل ( الماء على جلده ) أي بدنه وقد يكنى بالجلد عن البدن قاله الرافعي ، واحتج به من لم يشترط الدلك ; لأن الإفاضة الإسالة ، وقال المازري : لا حجة فيه لأن فاض بمعنى غسل فالخلاف فيه قائم .
( كله ) أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزا ، ففيه استحباب إكمال الوضوء قبل الغسل ولا يؤخر غسل الرجلين إلى فراغه وهو ظاهر قولها كما يتوضأ للصلاة وهذا هو المحفوظ في حديث عائشة من هذا الوجه ، ولمسلم من رواية أبي معاوية عن هشام فقال في آخره : ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه ، وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام ، قال البيهقي : هي غريبة صحيحة ، قال الحافظ : لكن لها شاهد من رواية أبي سلمة عن عائشة بلفظ : فإذا فرغ غسل رجليه ، رواه أبو داود .
فإما أن يحمل قولها كما يتوضأ للصلاة على أكثره وهو ما سوى الرجلين أو يحمل على ظاهره ، ويستدل برواية أبي معاوية على جواز تفريق الوضوء ، ويحتمل أن قوله : ثم غسل رجليه أي أعاد غسلهما لاستيعاب الغسل بعد أن كان غسلهما في الوضوء فيوافق حديث الباب .
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف وأبو داود والترمذي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به ، وتابعه أبو معاوية وجرير وعلي بن مسهر وابن نمير ووكيع كلهم عن هشام عند مسلم قائلا : وليس في حديثهم غسل الرجلين إلا في حديث أبي معاوية يعني فروايته شاذة كما علم ، ثم الشذوذ إنما هو في حديث عائشة هذا وإلا فهو ثابت في حديث ميمونة في الصحيحين ، وجمع بينهما بأنه فعل عند كل منهما ما حدثت به ، فبحسب اختلاف الحالين اختلف نظر العلماء كما تقدم ، والله أعلم .