بسم الله الرحمن الرحيم كتاب البيوع باب ما جاء في بيع العربان
حدثني يحيى عن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان قال مالك وذلك فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء قال مالك والأمر عندنا أنه لا بأس بأن يبتاع العبد التاجر الفصيح بالأعبد من الحبشة أو من جنس من الأجناس ليسوا مثله في الفصاحة ولا في التجارة والنفاذ والمعرفة لا بأس بهذا أن تشتري منه العبد بالعبدين أو بالأعبد إلى أجل معلوم إذا اختلف فبان اختلافه فإن أشبه بعض ذلك بعضا حتى يتقارب فلا يأخذ منه اثنين بواحد إلى أجل وإن اختلفت أجناسهم قال مالك ولا بأس بأن تبيع ما اشتريت من ذلك قبل أن تستوفيه إذا انتقدت ثمنه من غير صاحبه الذي اشتريته منه قال مالك لا ينبغي أن يستثنى جنين في بطن أمه إذا بيعت لأن ذلك غرر لا يدرى أذكر هو أم أنثى أحسن أم قبيح أو ناقص أو تام أو حي أو ميت وذلك يضع من ثمنها قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل ثم يندم البائع فيسأل المبتاع أن يقيله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدا أو إلى أجل ويمحو عنه المائة دينار التي له قال مالك لا بأس بذلك وإن ندم المبتاع فسأل البائع أن يقيله في الجارية أو العبد ويزيده عشرة دنانير نقدا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي اشترى إليه العبد أو الوليدة فإن ذلك لا ينبغي وإنما كره ذلك لأن البائع كأنه باع منه مائة دينار له إلى سنة قبل أن تحل بجارية وبعشرة دنانير نقدا أو إلى أجل أبعد من السنة فدخل في ذلك بيع الذهب بالذهب إلى أجل قال مالك في الرجل يبيع من الرجل الجارية بمائة دينار إلى أجل ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن الذي باعها به إلى أبعد من ذلك الأجل الذي باعها إليه إن ذلك لا يصلح وتفسير ما كره من ذلك أن يبيع الرجل الجارية إلى أجل ثم يبتاعها إلى أجل أبعد منه يبيعها بثلاثين دينارا إلى شهر ثم يبتاعها بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة فصار إن رجعت إليه سلعته بعينها وأعطاه صاحبه ثلاثين دينارا إلى شهر بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة فهذا لا ينبغي
جمع بيع ، وجمع لاختلاف أنواعه كبيع العين وبيع الدين وبيع المنفعة والصحيح والفاسد وغير ذلك ، وهو لغة : المبادلة . ويطلق أيضا على الشراء . قال الفرزدق :
إن الشباب الرابح من باعه والشيب ليس لبائعه تجار
.
يعني من اشتراه ، ويطلق الشراء أيضا على البيع ومنه : ( وشروه بثمن بخس ) ( سورة يوسف : الآية 20 ) سمي البيع بيعا لأن البائع يمد باعه إلى المشتري حالة العقد غالبا ، كما يسمى صفقة ; لأن أحد المتبايعين يصفق يده على يد صاحبه ، لكن رد الأخذ بأن البيع يائي والباع واوي . تقول : بعت الشيء بالضم أبوعه بوعا إذا قسمته بالباع ، واسم الفاعل من باع بائع بالهمز وتحريكه لحن واسم المفعول مبيع وأصله مبيوع فالمحذوف منه واو مفعول لأنها زائدة فهي أولى بالحذف ، قاله الخليل . وقال الأخفش : المحذوف عين الكلمة ، الأزهري : كلاهما صواب ، المازني : كلاهما حسن ، وقول الأخفش أقيس . قال ابن العربي في القبس : البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام العالم ; لأن الله خلق الإنسان محتاجا إلى الغذاء مفتقرا إلى النساء ، وخلق له ما في الأرض جميعا ولم يتركه سدى يتصرف باختياره كيف شاء ، فيجب على كل مكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه ؛ لأنه يجب على كل أحد أن لا يفعل شيئا حتى يعلم حكم الله فيه ، وقول بعضهم : يكفي ربع العبادات ليس بشيء إذ لا يخلو مكلف غالبا من بيع أو شراء .
بضم العين وسكون الراء ، ويقال عربون وعربون ، بالفتح والضم وبالهمزة بدل العين في الثلاث والراء ساكنة في الكل . قال ابن الأثير : قيل سمي بذلك لأن فيه إعرابا لعقد البيع أي إصلاحا وإزالة فساد لئلا يملكه غيره باشترائه . وفي الذخيرة : العربان لغة أول الشيء .
1282 - [ ص: 380 ] ( مالك ، عن الثقة عنده ) قال ابن عبد البر : تكلم الناس في الثقة هنا ، والأشبه القول بأنه الزهري عن ابن لهيعة ، أو ابن وهب عن ابن لهيعة لأنه سمعه من عمرو وسمعه منه ابن وهب وغيره اهـ . وقال في الاستذكار : الأشبه أنه ابن لهيعة ، ثم أخرجه من طريق ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن لهيعة عن عمرو به ، وقال : رواه حبيب كاتب مالك عن مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمرو به ، وحبيب متروك كذبوه اهـ . ورواية حبيب ثم ابن ماجه ، وأشبه من ذلك أنه عمرو بن الحارث المصري ، فقد رواه الخطيب من طريق الهيثم بن يمان أبي بشر الرازي عن مالك عن عمرو بن الحارث ( عن عمرو بن شعيب ) بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، صدوق ، مات سنة ثماني عشرة ومائة ( عن أبيه ) شعيب ، تابعي صدوق ( عن جده ) أي شعيب ، وهو عبد الله لأنه ثبت سماع شعيب منه أو ضميره لعمرو ، ويحمل على الجد الأعلى وهو الصحابي عبد الله بن عمرو ، ولذا احتج الأكثر بهذه الترجمة خلافا لمن زعم أنها منقطعة لأن جد عمرو محمدا ليس بصحابي ، ولا رواية له بناء على عود الضمير لعمرو وأنه الجد الأدنى .
( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العربان ) بضم فسكون ، وقد أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من طريق مالك به ، ومن قال : حديث منقطع أو ضعيف ، لا يلتفت إليه ولا يصح كونه منقطعا بحال ; إذ هو ما سقط منه الراوي قبل الصحابي أو ما لم يتصل ، وهذا أن فيه راويا مبهما . ( قال مالك : و ) تفسير ( ذلك فيما نرى ) بضم النون ، نظن ( والله أعلم أن يشتري الرجل ) أو المرأة ( العبد أو الوليدة ) الأمة ( أو يتكارى الدابة ) ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه : أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة المبتاعة ( أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة ، وإن تركت ) بضم التاء ( ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء ) أي [ ص: 381 ] لا رجوع لي به عليك ، وهو باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل ، فإن وقع فسخ فإن فات مضى لأنه مختلف فيه ، فقد أجازه أحمد ، وروي عن ابن عمر وجماعة من التابعين إجازته ، ويرد العربان على كل حال . قال ابن عبد البر : ولا يصح ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من إجازته ، فإن صح احتمل أنه يحسب على البائع من الثمن إن تم البيع وهذا جائز عند الجميع .
( قال مالك : والأمر عندنا أنه لا بأس بأن يبتاع ) بالبناء للفاعل أي المبتاع المفهوم من يبتاع وللمفعول فقوله : ( العبد التاجر الفصيح ) بالرفع والنصب ( بالأعبد من الحبشة أو من جنس من الأجناس ، ليسوا مثله في الفصاحة ولا في التجارة والنفاذ ) بالذال المعجمة ، المضي في أمره ( والمعرفة ) بالأخذ والعطاء ( لا بأس بهذا أن يشتري منه العبد بالعبدين أو بالأعبد إلى أجل معلوم إذا اختلف فبان ) ظهر ( اختلافه ، فإن أشبه بعض ذلك بعضا حتى يتقارب فلا يأخذ منه اثنين بواحد إلى أجل ، وإن اختلفت أجناسهم ) بالبياض والسواد ونحوهما ( ولا بأس بأن تبيع ما اشتريت من ذلك قبل أن تستوفيه ) أي تقبضه ( إذا انتقدت ثمنه من غير صاحبه الذي اشتريته منه ) لأن النهي إنما هو عن بيع الطعام قبل قبضه ( ولا ينبغي أن يستثنى جنين من بطن أمه إذا بيعت ; لأن ذلك غرر لا يدرى أذكر هو أم أنثى ، أم حسن أم قبيح ، أو ناقص أو تام ، أو حي أو ميت ؟ وذلك يضع ) ينقص ( من ثمنها ) وصح النهي عن بيع الغرر . ( قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل [ ص: 382 ] ثم يندم فيسأل المبتاع ) المشتري ( أن يقيله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدا أو إلى أجل ويمحو ) يزيل ( عنه المائة دينار التي له : لا بأس بذلك ) أي يجوز ; لأنه بيع مستأنف وإقالة لا تهمة فيها لرجوع سلعته إليه بما اشتراها به من الزيادة ، وليس في ذلك ذهب بأكثر منه ولا إلى أجل ، قاله أبو عمر . ( وإن ندم المبتاع فسأل البائع أن يقيله في الجارية أو العبد ويزيده عشرة دنانير نقدا أو إلى أجل أبعد من الأجل الذي اشترى إليه العبد أو الوليدة فإن ذلك لا ينبغي ) لا يجوز ( وإنما كره ذلك لأن البائع كأنه باع منه مائة دينار له إلى سنة قبل أن تحل ) السنة ( بجارية وبعشرة دنانير نقدا أو إلى أجل أبعد من السنة ) لأن الإقالة بيع ( فدخل في ذلك بيع الذهب بالذهب إلى أجل ) وهو ممنوع ( والرجل يبيع الجارية بمائة دينار إلى أجل ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن الذي باعها به إلى أبعد من ذلك الأجل الذي باعها إليه : إن ذلك لا يصلح ) لا يجوز ( وتفسير ما كره من ذلك أن يبيع الرجل الجارية إلى أجل ثم يبتاعها إلى أجل أبعد منه يبيعها بثلاثين دينارا إلى شهر ثم يبتاعها بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة ، فصار ) آل أمره ( إن رجعت إليه سلعته بعينها وأعطاه صاحبه ) الذي كان اشترى منه ( ثلاثين دينارا إلى شهر بستين دينارا إلى سنة أو إلى نصف سنة فهذا لا ينبغي ) [ ص: 383 ] أي يحرم لأنه حيلة للربا ، وهذا قول جمهور أهل المدينة وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم بناء على قطع الذرائع بما يغلب على الظن أن المتبايعين قصدا إليه ، وأبى ذلك الأكثر والشافعي حيث لا قصد لأن تهمة المسلم بما لا يحل حرام ، فلا يفسخ ما ظاهره حلال بالظن . وأما حديث : إن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة : إني بعت لزيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته منه قبل الأجل بستمائة فقالت : بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده معه - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب ، فقلت : إن أخذت الستمائة ، قالت : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) ( سورة البقرة : الآية 275 ) ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ) ( سورة البقرة : الآية 279 ) فضعيف ولفظه منكر ; لأن العمل الصالح لا يحبطه الاجتهاد بل الردة ، ومحال أن عائشة تلزم زيدا التوبة برأيها وزعم أنه توقيف لا يصح ، ولو ثبت عن عائشة احتمل أنها أنكرت البيع إلى العطاء لأنه مجهول ، وإذا اختلف الصحابة رجع إلى القياس وهو مع زيد لأن السلعة المشتراة إلى أجل مال للمشتري فله بيعها بما شاء ممن شاء ، قاله أبو عمر ملخصا .