1640 1592 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) ، ابن قيس بن عمرو الأنصاري ( أنه قال : سمعت أبا الحباب ) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة الخفيفة فألف فموحدة ( سعيد ) بكسر العين ( بن يسار ) بفتح التحتية والمهملة الخفيفة المدني الثقة المتقن ، مات بالمدينة سنة سبع عشرة ومائة وقيل قبلها بسنة ، يقال إنه مولى الحسن بن علي ، ويقال مولى شميسة النصرانية المسلمة [ ص: 350 ] بالمدينة على يد الحسن بن علي ، وقيل مولى شقران مولى النبي ، صلى الله عليه وسلم ( يقول : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم يقول : أمرت بقرية ) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية ( تأكل القرى ) أي تغلبها وتظهر عليها ، يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها ، يقال أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم ، فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الآكل إياه ، وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك : ما تأكل القرى أي ما معناه ؟ قال : تفتح القرى لأن من المدينة افتتحت القرى كلها بالإسلام .
وقال السهيلي : في التوراة يقول الله يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى ، وهو قريب من تأكل القرى ; لأنها إذا علت عليها علو الغلبة أكلتها ، ويكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها ، وجاء في مكة أنها أم القرى ، لكن المذكور للمدينة أبلغ من الأمومة إذ لا يمحى بوجودها وجود ما هي أم له لكن يكون حق الأمومة أظهر ، ومعنى تأكل القرى من الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى يكون عدما ، وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل اهـ .
وفيه تفضيل المدينة على مكة ، قال المهلب : لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها ، وأجيب بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة فيهم كثير من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين فلا يلزم من ذلك تفضيل إحدى القريتين ، قلنا : لا نزاع في ثبوت الفضل للفريقين وللقريتين ، كما أنه لا نزاع في أن مكة من جملة القرى التي أكلتها المدينة فيلزم تفضيلها عليها .
( ويقولون ) أي بعض الناس من المنافقين وغيرهم ( يثرب ) بالرفع يسمونها باسم واحد من العمالقة نزلها ، وقيل باسم يثرب بن قانية من ولد إرم بن سام بن نوح ، وقيل : هو اسم كان لموضع منها سميت به كلها ، وكرهه - صلى الله عليه وسلم - لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملامة أو من الثرب وهو الفساد وكلاهما قبيح ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب الاسم الحسن ويكره القبيح ولذا قال ، يقولون يثرب ( وهي المدينة ) أي الكاملة على الإطلاق ، كالبيت للكعبة فهو اسمها الحقيقي لها لأن التركيب يدل على التفخيم كقوله : وهم القوم كل القوم يا أم خالد .
أي هي المستحقة لأن تتخذ دار إقامة ، وأما تسميتها في القرآن يثرب فإنما هي حكاية عن المنافقين .
وأجيب عن حديث الصحيحين فإذا هي يثرب ، وفي رواية : لا أراها إلا يثرب بأنه كان قبل النهي ( تنفي ) بكسر الفاء ( الناس ) أي الخبيث الرديء منهم ( كما ينفي الكير ) بكسر الكاف وإسكان التحتية ، قال أبو عمر : هو موضع نار الحداد والصائغ وليس الجلد الذي تسميه العامة كيرا هكذا قال علماء اللغة ( خبث ) بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة ، والنصب على المفعولية ( الحديد ) أي وسخه الذي تخرجه النار ، أي لا تترك فيها من في قلبه دغل ، بل تميزه عن القلوب الصادقة وتخرجه ، كما تميز النار رديء الحديد من جيده ، ونسب التمييز للكير لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها .
قال أبو عمر : هذا إنما كان في الحياة النبوية ، فحينئذ لم يكن يخرج من المدينة رغبة عن جواره فيها إلا من لا خير فيه ، وأما بعده فقد خرج منها الخيار الفضلاء الأبرار ، وتبعه عياض فقال : الأظهر أن هذا يختص بزمنه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه ، وأما المنافقون وجهلة الأعراب فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الأجر في ذلك كما قال الأعرابي الذي أصابه الوعك : أقلني بيعتي اهـ .
ورجح النووي عمومه لما ورد أنها في زمن الدجال ترجف ثلاث رجفات يخرج الله منها كل كافر ومنافق ، قال : فيحتمل أنهم اختصوا بزمن الدجال ، ويحتمل أنه في أزمان متفرقة ، قال الأبي : فإن قيل قد استقر المنافقون فيها ، أجيب بأنهم انتفوا بالموت وهو أشد النفي ، فإن قيل قد استقر بها الروافض ونحوها ، قلت : إن كان نفيها الخبث خاصا بزمنه - صلى الله عليه وسلم - فالجواب واضح ، وإن كان عاما فيحتمل أن المراد بنفي الخبث إخماد بدعة من يسكنها من المبتدعة ، وعدم ظهوره بحيث يدعو إلى بدعته وهذا لم يتفق فيها اهـ .
وهذا الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به ، وتابعه سفيان وعبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عند مسلم وقال : إنهما قالا كما ينفي الكير الخبث لم يذكر الحديد .