( أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ) لينظر في أحوال رعيته بها وأمرائه سنة سبع عشرة بعد فتح بيت المقدس ، وخرج إليها قبل ذلك لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس وسأله أهله أن يكون صلحهم على يد عمر ، فقدم فصالحهم ورجع سنة عشر ، قاله في المفهم .
وفي التمهيد : خرج عمر إلى الشام مرتين في قول بعضهم : وقيل : لم يخرج لها إلا مرة واحدة هي هذه .
( حتى إذا جاء سرغ ) بمهملتين ومعجمة قال عياض : رويناه بسكون الراء وفتحها ، وصوب ابن مكي السكون ، قال مالك وابن حبيب : هي قرية بوادي تبوك وهي آخر عمل الحجاز ، وقيل : مدينة بالشام ، قال ابن وضاح : بينها وبين المدينة ثلاثة عشر مرحلة ( بلغه ) من أمراء الأجناد ( أن الوباء ) بفتح الواو والموحدة والهمزة والمد والقصر وهو المرض العام ، والمراد هنا الطاعون المعروف بطاعون عمواس .
( قد وقع بالشام ) أي : بدمشق وهي أم الشام وإليها كان مقصده كذا قال أبو عمر ، فعزم على الرجوع بعد أن اجتهد ووافقه أكثر الصحابة الذين معه على ذلك .
( فأخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله قال : إذا سمعتم به ) أي الطاعون ( بأرض فلا تقدموا ) بفتح أوله وثالثه ، وروي بضم الأول وكسر الثالث ( عليه ) لأنه أقدم على خطر ( وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) لأنه فرار من القدر ، فالأول تأديب وتعليم والثاني تفويض وتسليم .
قال ابن عبد البر : النهي عن القدوم لدفع ملامة النفس ، وعن الخروج للإيمان بالقدر انتهى .
والأكثر أن النهي عن الفرار منه للتحريم وقيل : للتنزيه ويجوز لشغل عرض غير الفرار اتفاقا ، قاله التاج السبكي .
قال الحافظ : ولا شك أن الصور ثلاث : من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة .
ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلا ويصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثلا ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه [ ص: 380 ] في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي .
الثالث : من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع ، كأن تكون الأرض التي وقع بها وخمة ، والأرض التي يتوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد إليها ، فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة ، ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحض القصد للفرار ، وإنما هو لقصد التأوي انتهى .
قال ابن عبد البر : يقال ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت ، ولم يبلغني عن أحد من حملة العلم أنه فر منه إلا ما ذكرالمدايني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه إلى السبالة فكان يجمع كل جمعة ويرجع فإذا رجع صاحوا به فر من الطاعون فطعن فمات بالسبالة انتهى .
لكن نقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي وقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم علي والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق وأنهما كانا يفران منه .
ونقل ابن جرير أن أبا موسى الأشعري كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون .
وعن عمرو بن العاصي أنه قال : تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال حملا للنهي على التنزيه ، والجمهور أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة أنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف .
( فرجع عمر بن الخطاب من سرغ ) بمنع الصرف والصرف وفيه جواز ذلك وليس من الطيرة ، وإنما هو من منع الإلقاء إلى التهلكة ، أو سدا للذريعة لئلا يعتقد من يدخل إليها ظن العدوى المنهي عنها ، وفيه كما قال أبو عمر أنه قد يذهب على العالم الحبر ما يوجد عند غيره من العلماء ممن ليس مثله ، وكان عمر من العلم بموضع لا يوازيه أحد .