1761 1712 - ( مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ) مرسلا عند الجميع إلا معن بن عيسى ، فرواه في الموطأ عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة ، وليست روايته بشاذة ; لأنه تابعه ابن وهب وهو معلوم الاتصال عند أصحاب هشام .
وفي حديث رافع بن خديج في البخاري : من فوح ، بالواو بدل الياء ، وفي رواية الشيخين عنه : من فور ، بالراء بدل الحاء ، والثلاثة بمعنى ( جهنم ) ، أي سطوع حرها وفورانه حقيقة ، أرسلت إلى الدنيا نذيرا للجاحدين ، وبشيرا للمقربين ، لأنها كفارة لذنوبهم ، فاللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من نار جهنم قدر الله ظهورها بأسباب يقضيها ، ليعتبر العباد بذلك ، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة ، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة ، وقيل : هو من باب التشبيه ، شبه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذيبة للبدن ومعذبة له بنار جهنم ، ففيه تنبيه للنفوس على شدة حر النار ، والأول أولى .
( فابردوها ) ، بهمزة وصل وضم الراء على المشهور في الرواية من : بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا ، أي [ ص: 524 ] أسكنت حرارتها ، وحكي كسر الراء مع وصل الهمزة ، وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة ، وكسر الراء من : أبرد الشيء إذا عاجله فصيره باردا ، وقال الجوهري : إنها لغة رديئة ، وقول أبي البقاء : الصواب وصل الهمزة وضم الراء ، زاد القرطبي : وأخطأ من زعم قطعها ، فيه نظر بعد ثبوتها رواية ( بالماء ) البارد ، كما في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه " شربا ، وغسل أطراف " ; لأن الماء البارد رطب ينساغ لسهولته فيصل للطافته إلى أماكن العلة من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة .
قال الخطابي وغيره : اعترض بعض سخفاء الأطباء الحديث بأن اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك ; لأنه يجمع المسام ، ويحقن البخار المتحلل ، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم ، فيكون سببا للتلف ، وغلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس بالماء ، أصابه الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه ، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه ، فلما خرج من علته قال قولا سيئا لا يحسن ذكره ، وأوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث ، وارتيابه في صدقه ، فيقال له أولا : من أين حملت الأمر على الاغتسال ، وليس في الحديث بيان الكيفية فضلا عن اختصاصها بالغسل ، وإنما أرشد إلى تبريدها بالماء ، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن إغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه فليس هو المراد ، وإنما قصد - صلى الله عليه وسلم - استعماله على وجه ينفع فيبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به ، وهو كما أمر العائن بالاغتسال وأطلق ، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه أراد الاغتسال على صفة مخصوصة ، لا مطلق الاغتسال ، فكذلك هنا يحمل على ما بينته أسماء ، لأنها من جملة من رواه ، فهي أعلم بالمراد من غيرها .
وقال المازري : لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل ، حتى إن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له كغضب يحمي مزاجه مثلا فيتغير علاجه ، ومثل ذلك كثير ، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة لم يلزم وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال ، وأجمع الأطباء على أن الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع ، ثم ذكر نحو ما مر ، ثم قال : وعلى تقدير أن يراد الاغتسال فيحتمل أنه في وقت مخصوص بعدد مخصوص ، فيكون من الخواص التي اطلع عليها - صلى الله عليه وسلم - بالوحي ، ويضمحل عند ذلك كلام الأطباء ، ويحتمل أن يكون ذاك لبعض الحميات دون بعض وهذا أوجه .
وقال عياض : لم يبين - صلى الله عليه وسلم - الصفة والحالة ، فمن أين أنه أراد الانغماس ، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يبرد صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرد ، نعم ، ويسقونه الثلج ، ويغسلون أطرافه بالماء البارد ، فلا يبعد أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد هذا النوع من الحمى والغسل على مثل ما قالوه ، أو قريب منه ، وقد [ ص: 525 ] تأولت أسماء الحديث على نحو ما قلناه ، وقد شاهدته - صلى الله عليه وسلم - وهي في القرب منه على ما علم ، انتهى .
والحاصل أن الحمى أنواع : منها ما يصلح له الإبراد بالماء ، ومنها ما لا يصلح ، والذي يصلح إبراده بالماء يختلف أيضا ، فمنه ما يصلح أن يرش بين بدن المحموم وجيبه ، أو يقطر على صدره من السقاء فلا يجاوز ذلك منه ما يحتاج إلى صب الماء على رأسه وسائر بدنه ، أو إلى انغماسه في النهر الجاري مرة فأكثر ، وذلك باختلاف نوع المرض ، وكما يختلف بذلك يختلف أيضا بحسب اختلاف الفصل ، والقطر ، والمزاج ، فلا يسوى بين الشتاء والصيف ، ولا بين الشام ومصر ، ولا بين مصر والحجاز ، ولا بين من مزاجه بارد رطب ، وبين من مزاجه حار يابس ، ولا بين من به نزلات وتحدرات ، وبين غيره ، هذا هو المقرر من قواعد الطب .