( واليد العليا هي المنفقة ) ، اسم فاعل من أنفق ، هكذا رواه مالك ، قال أبو داود : وكذا قال الأكثر عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع ، وقال واحد عنه : المتعففة ، وكذا قال عبد الوارث عن أيوب ، قال الحافظ الواحد القائل " المتعففة " بعين وفاءين هو مسدد في مسنده ، وأخرجه ابن عبد البر من طريقه ، وتابعه أبو الربيع الزهراني عند أبي يوسف القاضي في كتاب الزكاة ، وأما رواية عبد الوارث ، فلم أقف عليها موصولة ، وقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق سليمان بن حرب عن حماد بلفظ : واليد العليا يد المعطي ، وهذا يدل على أن من رواه عن نافع بلفظ : المتعففة فقد صحف ، انتهى .
ورجح الخطابي الثانية بأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها ، قال الطيبي : وتجويز ترجيحه أن قوله وهو يذكر الصدقة . . . إلخ ، كلام مجمل في معنى العفة عن السؤال ، وقوله : اليد العليا بيان له ، وهو أيضا مبهم ، فينبغي تفسيره بالعفة ليناسب المجمل ، وتفسيره بالمنفقة لا يناسب المجمل ، لكن إنما يتم هذا لو اقتصر على قوله : اليد العليا هي المنفقة ، ولم يعقبه بقوله : ( و ) اليد ( السفلى هي السائلة ) لدلالتها على علو المنفقة ، وسفالة السائلة ، ورذالتها ، وهي ما يستنكف منها ، فظهر بهذا أن رواية المنفقة أرجح نقلا ودراية ، انتهى .
قال ابن العربي : التحقيق أن السفلى يد السائل ، وأما يد الآخذ فلا ; لأن يد الله هي المعطية ، وهي الآخذة ، وكلتاهما يمين وفيه نظر ; لأن البحث إنما هو في أيدي الآدميين ، أما يد الله فباعتبار كونه مالك كل شيء نسبت يده إلى الإعطاء ، وباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها ، نسبت إلى الأخذ ، ويده العليا على كل حال ، وأما يد الآدمي فأربعة : يد المعطي وقد تظافرت الأخبار بأنها عليا ، ويد السائل وقد تظافرت الأحاديث بأنها السفلى ، سواء أخذت أم لا ، وهذا موافق بكيفية الإعطاء والأخذ غالبا .
ثالثها : يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد مد يد المعطي مثلا ، وهذه توصف بأنها عليا علوا اعتباريا ، رابعها : يد الآخذ بلا سؤال ، واختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى نظرا إلى المحسوس ، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكون عليا في بعض الصور ، وعليه يحمل كلام من أطلق أنها عليا .
وعن الحسن البصري : العليا المعطية ، والسفلى المانعة ، ولم يوافق عليه ، وأطلق آخرون من المتصوفة أن اليد الآخذة أفضل من المعطية مطلقا ، قال ابن قتيبة : وما أرى هؤلاء إلا قوما استطابوا السؤال ، فهم يحتجون للدناءة ، ولو جاز هذا لكان المولى من فوق هو الذي كان رقيقا فأعتق ، والمولى من أسفل هو السيد الذي أعتق ، وفي مطلع الفوائد للعلامة جمال الدين بن نباتة في تأويل الحديث معنى آخر أن اليد هنا النعمة ، فكان المعنى : العطية الجزيلة خير من العطية القليلة ، فهذا حث على مكارم الأخلاق بأوجز لفظ ، ويشهد له أحد التأويلين في قوله : ما أبقت غنى ، أي ما حصل به للسائل غنى عن سؤاله ، كمن أراد أن يتصدق بألف ، فلو أعطاها لمائة إنسان لم يظهر عليهم الغنى ، بخلاف ما لو أعطاها لرجل واحد قال : وهو أولى من حمل اليد على الجارحة ; لأن ذلك لا يستمر ، إذ قد يأخذ من هو خير عند الله ممن يعطي .
قلت : التفاضل هنا يرجع إلى الإعطاء والأخذ ، ولا يلزم منه أن يكون المعطي أفضل من الآخذ على [ ص: 674 ] الإطلاق ، وقد روى إسحاق في مسنده عن حكيم بن حزام ، أنه قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10354682يا رسول الله ما اليد العليا ؟ قال : التي تعطي ، ولا تأخذ " ، فهذا صريح في أن الآخذة ليست بعليا ، وكل هذه التأويلات المتعسفة تضمحل عند الأحاديث المتقدمة المصرحة بالمراد ، فأولى ما فسر الحديث بالحديث ، ومحصل ما في الأحاديث المتقدمة أن أعلى الأيدي المنفقة ، ثم المتعففة عن الأخذ ، ثم الآخذة بغير سؤال ، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة .
قال ابن عبد البر : في الحديث إباحة الكلام للخطيب بل كل ما يصلح من موعظة وعلم وقربة ، والحث على الإنفاق في وجوه الطاعة ، وتفضيل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر ; لأن العطاء إنما يكون من الغنى ، وفيه كراهة السؤال ، والتنفير عنه ومحله إذا لم تدع إليه ضرورة من خوف هلاك ونحوه .