وفي مسلم ، عن عروة : " لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا خسفت " لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة ، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر ، واختاره ثعلب ، وذكر الجوهري أنه أفصح وقيل : متعين ، وعن بعضهم عكسه ، وغلطه عياض لقوله تعالى : وخسف القمر ( سورة القيامة : الآية 8 ) وقيل : يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث ، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف ؛ لأن الكسوف التغير إلى سواد ، والخسوف النقصان أو الذل ، فإذا قيل في الشمس كسفت أو خسفت ؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ وكذلك القمر ، ولا يلزم من ذلك ترادفهما ، وقيل بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء ، وقيل بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه ، وقيل بالخاء لذهاب كل اللون وبالكاف لتغيره ، وزعم أهل الهيئة أن كسوف الشمس لا حقيقة له ، فإنها لا تتغير في نفسها وإنما القمر يحول بيننا وبينها ونورها باق ، وأما كسوف القمر فحقيقة فإن ضوءه من ضوء الشمس ، وكسوفه بحيلولة ظل الأرض بين الشمس وبينه بنقطة التقاطع فلا يبقى فيه ضوء البتة ، فخسوفه ذهاب ضوئه حقيقة ، وأبطله ابن العربي بأنهم زعموا أن الشمس أضعاف القمر فكيف يحجب الأصغر الأكبر إذا قابله ؟
وفي الكسوف فوائد : ظهور التصرف في هذين الخلقين العظيمين ، وإزعاج القلوب الغافلة وإيقاظها ، وليرى الناس أنموذج القيامة ، وكونهما يفعل بهما ذلك ثم يعادان فيه تنبيه على خوف المكر ورجاء العفو ، والإعلام بأنه قد يؤخذ من لا ذنب له فكيف من له ذنب ؟
( فقام فأطال القيام ) لطول القراءة ، وفي التالي نحوا من سورة البقرة ، وفي رواية الزهري : nindex.php?page=hadith&LINKID=10352179فاقترأ قراءة طويلة ( ثم ركع فأطال الركوع ) لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه ، وإنما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما ( ثم قام فأطال القيام ) وفي رواية ابن شهاب : ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ففيه ندب الذكر المشروع في الاعتدال ، واستشكل بأنه قيام قراءة لا اعتدال لاتفاق من قال بزيادة ركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه ، وإن خالف محمد بن مسلمة ، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا دخل للقياس فيها ، بل كل ما فعله - صلى الله عليه وسلم - فيها فهو مشروع ؛ لأنها أصل برأسه قاله كله الحافظ .
( وهو دون القيام الأول ) الذي ركع منه ( ثم ركع فأطال الركوع ) بالتسبيح ونحوه ( وهو دون الركوع الأول ثم رفع ) رأسه من الركوع الثاني ( فسجد ) ولم يذكر في هذه الرواية ولا اللتين بعدها تطويل السجود ، فاحتج به من ذهب إلى أنه لا طول فيه قائلا : لأن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره كالقيام والركوع ولم تشرع الزيادة في السجود فلا يشرع تطويل ، وحكمة ذلك أن القائم والراكع يمكنه رؤية الانجلاء ، بخلاف الساجد فإن الآية علوية فناسب طول القيام لا السجود ، ولأن في تطويله استرخاء الأعضاء فقد يفضي إلى النوم .
( ثم فعل في الركعة الآخرة ) بكسر الخاء ؛ أي : الثانية ( مثل ذلك ) وفسر ذلك في رواية عمرة الآتية ، وذكر الفاكهاني أن في بعض الروايات [ ص: 631 ] تقدير القيام الأول بنحو البقرة ، والثاني بنحو آل عمران ، والثالث بنحو النساء ، والرابع بنحو المائدة ، ولا يشكل بأن المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني ، والنساء أطول من آل عمران ؛ لأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول ، لكن تعقب بأن الحديث الذي ذكره لا يعرف ، إنما هو قول الفقهاء وإن كان أوله حديث ابن عباس الآتي ، نعم ؛ للدارقطني ، عن عائشة أنه قرأ في الأولى بالعنكبوت والروم وفي الثاني بـ يس .
( ثم انصرف ) من الصلاة ( وقد تجلت ) بفوقية وشد اللام ( الشمس ) أي : صفت وعاد نورها ؛ أي : والحال أنها قد تجلت قبل انصرافه .
( فخطب الناس ) وعظهم وذكرهم وأعلمهم بسبب الكسوف ، وأخبرهم بإبطال ما كانت الجاهلية تعتقده .
( فحمد الله وأثنى عليه ) زاد النسائي ، عن سمرة : وشهد أنه عبد الله ورسوله .
واحتج بظاهره الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث على استحباب الخطبة كالجمعة ، والمشهور عند المالكية والحنفية لا خطبة لها ، نعم ؛ يستحب الوعظ بعد الصلاة وهو المراد كما مر ؛ إذ ليس في الأحاديث ما يقتضي أنهما خطبتان كالجمعة وإن اشتملت على الحمد والثناء والوعظ وغير ذلك ، وفيه أن الانجلاء لا يسقط الوعظ بخلاف ما لو انجلت قبل الصلاة فيسقطها الوعظ ، فلو تجلت في أثنائها ففي إتمامها على صفتها أو كالنوافل المعتادة قولان .
( ثم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=10352186إن الشمس والقمر آيتان ) أي : علامتان ( من آيات الله ) الدالة على وحدانيته تعالى وعظيم قدرته ، أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته ، ويؤيده قوله تعالى : وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ( سورة الإسراء : الآية 59 ) قال العلماء : الحكمة في هذا الكلام أن بعض الجاهلية الضلال كانوا يعظمون الشمس والقمر ، فبين أنهما آيتان مخلوقتان لله لا صنع لهما بل هما كسائر المخلوقات يطرأ عليهما النقص والتغير كغيرهما ، زاد في رواية : يخوف الله بهما عباده .
( لا يخسفان ) بفتح فسكون ويجوز ضم أوله ، وحكى ابن الصلاح منعه ( لموت أحد ) وذلك أن ابنه - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم مات ، فقال الناس ذلك كما في رواية للبخاري .
وعند ابن حبان فقال الناس : إنها كسفت لموت إبراهيم .
وفائدة قوله : ( ولا لحياته ) مع أن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ولم يذكروا الحياة ؛ دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد فعمم لدفع هذا التوهم ، وفيه ما [ ص: 632 ] كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته ، وشدة الخوف من ربه ، وإبطال ما كانت الجاهلية تعتقد أن الكسوف يوجب حدوث تغير بالأرض من موت أو ضرر ، فاعلم أنه اعتقاد باطل ، وأنهما خلقان مسخران لا سلطان لهما في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما .
( فإذا رأيتم ذلك ) الكسوف في أحدهما لاستحالة كسوفهما معا في وقت واحد عادة ، وإن كان ذلك جائزا في قدرة الله ( فادعوا الله وكبروا وتصدقوا ) وقع الأمر بالصدقة في رواية هشام هذه دون غيرها .
( والله ) أتى باليمين لإرادة تأكيد الخبر وإن كان لا يرتاب فيه ( nindex.php?page=hadith&LINKID=10352189ما من أحد أغير ) بالنصب خبر و " من " زائدة ، ويجوز الرفع على لغة تميم أو هو بالخفض بالفتحة صفة لـ " أحد " ، والخبر محذوف ؛ أي : موجود أغير ( من الله ) أفعل تفضيل من الغيرة - بفتح المعجمة - وهي لغة تحصل من الحمية والأنفة ، وأصله في الزوجين والأهلين ، وذلك محال على الله تعالى ؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص ، فتعين حمله على المجاز ، فقيل : لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك ؛ لأنه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده ، فهو من تسمية الشيء بما يترتب عليه .
وقال ابن فورك : المعنى ما أحد أكثر زجرا ، عن الفواحش من الله .
وقال غيره : غيرة الله ما يغير حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما ، ومنه قوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( سورة الرعد : الآية 11 ) وقال ابن دقيق العيد : أهل التنزيه في مثل هذا على قولين : إما ساكت ، وإما مئول بأن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية ، فهو من مجاز الملازمة .
وقال الطيبي وغيره : وجه اتصال هذا بقوله : فاذكروا الله . . . . إلخ ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي جلب البلاء ، وخص منه الزنى ؛ لأنه أعظمها في ذلك .
وقيل : لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة ( أن يزني عبده أو تزني أمته ) متعلق بأغير ، وحذف من قبل أن قياسه مستمر وتخصيصهما بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالبا ، ثم كرر النداء فقال : ( يا أمة محمد ) ويؤخذ منه أن الواعظ ينبغي له حال وعظه أن لا يأتي بكلام فيه تفخيم نفسه ، بل يبالغ في التواضع ؛ لأنه أقرب إلى انتفاع [ ص: 633 ] السامع ( والله لو تعلمون ما أعلم ) من عظيم قدرة الله وانتقامه من أهل الجرائم وشدة عقابه ، وأهوال القيامة وما بعدها ، وقيل : معناه لو دام علمكم كما دام علمي ؛ لأن علمه متواصل ، بخلاف علم غيره ( لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ) لتفكركم فيما عملتموه ، وقيل : معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك مما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك . قيل : معنى القلة هنا العدم ؛ أي : لتركتم الضحك ، أو لم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن .
وقول المهلب : المخاطب بذلك الأنصار لما كانوا عليه من محبة اللهو والغناء لا دليل عليه ، ومن أين له أنهم المخاطبون دون غيرهم ، والقصة كانت في آخر زمنه - صلى الله عليه وسلم - حيث امتلأت المدينة بأهل مكة ووفود العرب ؟
وقد بالغ الزين بن المنير في الرد عليه والتشنيع .
وفي الحديث ترجيح التخويف في الوعظ على التوسع بالترخيص لما في الترخيص من ملائمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة ، والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها لا بما يزيدها ، وأن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من زيادة التطويل على العادة في القيام وغيره وزيادة ركوع في كل ركعة ، ووافق عائشة على ذلك رواية ابن عباس وابن عمر . وفي الصحيحين nindex.php?page=showalam&ids=64وأسماء بنت أبي بكر وجابر في مسلم ، وعلي عند أحمد ، وأبو هريرة في النسائي ، وابن عمر في البزار وأم سفيان في الطبراني ، وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات فالأخذ بها أحق من إلغائها ، وبذلك قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة ، وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة : إنها ركعتان نحو الصبح ثم الدعاء حتى تنجلي ، وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا ، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوع ففعل ذلك مرة أو مرارا ، فظنه بعض من رواه يفعل ذلك ركوعا زائدا ، وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين ، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يجتمع إلى تطويل ، ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه قال ذكر الاعتدال ، ثم شرع في القراءة ، فكل ذلك يرد هذا المحل ، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج فعله - صلى الله عليه وسلم - عن العبادة المشروعة ، أو لزمه منه إثبات هيئة في الصلاة لأعهد بها وهو ما فر منه ، والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ومسلم عن قتيبة بن سعيد كلاهما عن مالك به .